تواضع الرؤساء.. بين الاستعراض والعفوية

TT

في حوار أجري مؤخرا مع الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، قال بأنه لا يملك سيارة، وحتى منزله هو بيت قديم، وحينما سئل عن مشاعره وهو يباشر عمله في القصر الرئاسي، أجاب: «أنا بصراحة إلى حد الآن ما زلت لم أكتشف هذا القصر (... أقوم) كل يوم بالعمل الذي عليّ أن أقوم به لإعانة الناس وإعانة البشر.. أما الديكور أيا كان فأنا لا أهتم به».

مظاهر التواضع، ومخالفة البروتوكول عمدا بدعوى الابتعاد عن مظاهر السلطة، وأبهة السلطان، باتت موضة رائجة بين عدد من الشخصيات السياسية التي صعدت إلى السلطة خلال العام الماضي بعد زلزال «الربيع العربي». الرئيس المصري محمد مرسي - على سبيل المثال - يحرص على صلاة الفجر بالمسجد، ويرفض تعطيل المرور من أجل موكبه، ويفضل الإقامة في منزله بالتجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، على الانتقال إلى قصور الرئاسة.

المؤيدون لمثل هذه المبادرات يجادلون بأنها مظاهر عفوية وغير متكلفة، ويذهب البعض إلى أنها مهمة من أجل كسر الصورة النمطية التي خلقها الرؤساء والزعماء السابقون عن أنفسهم بوصفهم شخصيات شديدة الغرور والاهتمام بالمظاهر الخادعة للسلطة، يضاف إلى ذلك أن المؤيدين لمثل هذه المظاهر يؤكدون أن تواضع الرئيس يكرس لدى كبار المسؤولين حس احترام مشاعر المواطنين، ويضربون أمثلة على ذلك في نموذج وزير خارجية تونس رفيق عبد السلام، الذي التقطت له صور في مؤتمر حزب النهضة الأخير وهو نائم على الأرض في قاعة المؤتمر، بعد عناء نهار طويل من الجدل والنقاش الحزبي.

ولكن هل «التواضع» في حد ذاته يعني سياسات أفضل؟ ومتى يمكن التفريق بين الاستعراض والعفوية في مثل هذه الحالات؟ في كتابه «لغة السياسة»، يشير أدريان بيرد (2000)، الذي قضى أعواما عدة في دراسة خطب الزعماء السياسيين وتصريحاتهم، ومقارنتها بمواقفهم السياسية، إلى أن الساسة مهما خلع عليهم من صفات التواضع والزهد، هم في النهاية أشخاص مغرمون بالوصول إلى السلطة، والحفاظ عليها إلى أطول مدة ممكنة، هناك بالطبع حالات استثنائية وصل بها أشخاص غير مكترثين بالسلطة إلى الحكم، وسارعوا إلى تسليمها لمن بعدهم رغبة في الخلاص من سطوتها السيكولوجية على شخصية الفرد، ولكن هؤلاء قلة للغاية. يلفت بيرد إلى أن أغلب المشتغلين بالسياسة غالبا ما يصورون أنفسهم على أنهم أناس مخلصون لم يطلبوا السلطة للانتفاع الشخصي، بل لخدمة مواطنيهم، وقد يعيش البعض منهم حقيقة في منازل متواضعة وظروف عيش تدل على الزهد في الماديات، ولكنهم في العمق ليسوا زهادا، حين يتعلق الأمر بالسلطات السياسية الممنوحة لهم.

يحرص الرؤساء في الدول الغربية، على سبيل المثال، على مصافحة الجمهور والتقاط الصور التذكارية مع عامة الشعب، وقد يبادر الرئيس أو المرشح السياسي إلى تقبيل الأطفال أو زيارة جرحى الحرب للدلالة على الجانب الإنساني لديهم، أو قد يشاهد السياسي متجولا في الدوائر الحكومية لتفقد الخدمات، أو يأكل في مطعم شعبي ليشارك الطبقات الفقيرة خبزهم، ولكن هذه التصرفات في النهاية هي مظاهر عابرة محسوبة النتائج، فالرئيس أو المرشح لا يعيش حياته كذلك كل يوم.

هذا لا يعني التقليل من هذه المبادرات الشعبية، فالسياسي لا بد أن يظهر احترامه واهتمامه بأمور مواطنيه، بيد أن هنالك فرقا شديد الوضوح بين الاستعراض المحض والعفوية العارضة في تصرفات الساسة وتصريحاتهم.

من الطبيعي أن يزرع الحاكم المستبد الخوف والرعب في نفوس من يحكمهم، ولكنه لا يمكن له أن يملك احترامهم. وفي المقابل فإن الحاكم الذي يبدو ضعيفا ومترددا في تصرفاته أمام مواطنيه، يفقد بالضرورة هيبة الحكم، وما هو أهم هو أن يفقد قدرته على قيادة مواطنيه نحو النمو والازدهار.

يرى أدريان بيرد أن المهم في الغالب ليست التصرفات الظاهرة، أو التصريحات العلنية، بل المضمر فيها، أي أن بعض أولئك الزعماء الذين يبالغون في مظاهر التواضع عنوة، هم في الحقيقة مسكونون بحالة من الغرور وحب السلطة أكثر من غيرهم، وأنه حينما يكرر السياسي عبارات الزهد والتواضع بإسراف، يدرك المرء أن هناك تصنعا في الأمر.

في التاريخ العربي المعاصر هناك أمثلة كثيرة لزعماء عاشوا إلى درجة ما حياة غير مترفة، وعرفوا - نسبيا - بنظافة اليد، بحسب روايات المعجبين بهم، ولكن كانت سياساتهم كارثية بحق مواطنيهم، وسببا مباشرا في حروب ونزاعات إقليمية، مثل الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر، وعبد الكريم قاسم، وآخرين، حتى دول «الربيع العربي» التي شهدت انتفاضات شعبية، لم يكن قادتها في بدايات حكمهم طغاة مستبدين، كما بدوا في نهاياتها.

يروي السياسي المغربي الراحل عبد الهادي بوطالب (2000) أنه كان في زيارة رسمية إلى ليبيا عشية انقلاب عام 1969، مما اضطره إلى التريث في فندق حتى يتم فتح المطار، وفي تلك الأثناء عثر على ورقة صغيرة مكتوبة بخط اليد في غرفته، بعد عودته للفندق مكتوب عليها «من معمر إلى أخيه عبد الهادي بوطالب»، سأل مكتب الاستقبال: «من يكون معمر هذا؟»، فقيل له إنه يدعى القذافي جاء لزيارته ووضع الورقة أسفل الباب حين لم يجده. يشير بوطالب إلى أنه أعجب بهذا التواضع والأدب الجم في حينه، ولكن لم يدر بخلده أن يتحول ذاك الضابط الشاب والمهذب إلى ما انتهى إليه. أيضا، الرئيس زين العابدين بن علي في بدايات حكمه أطلق السجناء من المعتقلات ودعا إلى برنامج إصلاحي ديمقراطي، حتى إن الشيخ راشد الغنوشي في ذلك الوقت، أثنى على بن علي واعتبره منقذا في حوارات منشورة، حيث قال: «قبل حركة نوفمبر (تشرين الثاني) كانت تونس على حافة الحرب الأهلية، والرئيس الجديد أنقذ البلاد من مصير مجهول» (أوراق الغنوشي، مجلة «المجلة»: العدد 445 أغسطس/ آب 1988).

حتى الرئيس السوري بشار الأسد شهدت بدايات حكمه انفتاحا نسبيا، واتصل بالمثقفين والفنانين شخصيا وتبسط إليهم، حتى كان البعض ممن هم اليوم في المعارضة يحضرون موائده في القصر الرئاسي، ويشتركون معه في مبادرات شعبية، وينوهون بتواضع الرئيس الشاب وحسن أخلاقه، ولكننا ندرك اليوم مقدار الشر والتدمير الذي سلكه نظامه في سبيل سحق الانتفاضة.

كما ترى فإن تواضع الرئيس في بداياته لا يعني أننا بصدد سياسات جيدة، بل ربما اختفى وراء المظاهر المتواضعة فساد مالي وتعسف سياسي، قد يجادل البعض أن الإسلاميين بسبب الوازع الديني والانضباط الآيديولوجي المحافظ، مرشحون لأن يكونوا حكاما أفضل تواضعا وسياسة. ليس بالضرورة، فالرئيس الإيراني أحمدي نجاد هو من أكثر الرؤساء الإيرانيين تواضعا في المأكل والمشرب، ولا يملك إلا سيارة من نوع بيجو متهالكة، ولكن هذا لا يعني أنه سياسي مهتم بتطوير بلده، فالرئيس الفقير - كما قيل - أصبح الإيرانيون تحت حكمه أكثر فقرا، بل إن تقارير صحافية تنشر من صحف إيرانية محافظة تتهم أصهار الرئيس ومساعديه بفساد مالي يتجاوز مليارات الدولارات. رئيس حكومة حماس المقالة إسماعيل هنية الذي ما زال يدير غزة بعد انقلاب مسلح، تفنن هو الآخر في الاستعراض، حيث يلقي خطبة الجمعة، ويؤم المصلين، ويأكل الطعام على الأرض كما يفعل الفقراء، أصبحت غزة في عهده مليئة بفضائح الفساد واستغلال السلطة، حيث يشير تقرير لـ«واشنطن بوست» 19 أبريل (نيسان) إلى أن بعض زعماء حماس يديرون بأنفسهم تجارة الأنفاق والتهريب، في وقت يزداد فيه الفلسطينيون فقرا، بينما رئيس الوزراء المقال يطالب بالـ«الخلافة الإسلامية».

الذي لم يستطع توفير الأمن والرفاه لمواطني بلد صغير، كيف يمكنه المشاركة في إنشاء إمبراطورية مستقبلية! هناك حاجة إلى التأكيد على أن بعض تصرفات التواضع التي يقوم بها محدثو السلطة، هي في حقيقتها تكبد الحكومات مصاريف إضافية لتأمين سلامة الرئيس، كلما عنّ له الاستعراض تكسبا للشعبية. العبرة ليست في المظاهر، وإن بدت جليلة، لأن التواضع الحقيقي يتمثل في نتائج السياسات وتحقيق الوعود. من يعرض مواطنيه للعقوبات الدولية، ويرتهن مستقبل بلده لأجندات خارجية، لا يمكنه تحقيق الازدهار لوطنه، وإن كان متواضعا.