الجيل الانتحاري

TT

كلا يا سيدي القارئ، لا أقصد بالجيل الانتحاري الشباب الذين يفجرون أنفسهم طمعا بحوريات الجنة. لدينا عملية انتحارية أخطر وأوسع تقوم بها معظم الحكومات التي تشتري حاضرها بمستقبلها. من أول من أشاروا لذلك المفكر السياسي البريطاني أدموند برك في أواخر القرن الثامن عشر. كان جان جاك روسو قد سبقه بعدة سنوات عندما نشر كتابه الخطير «العقد الاجتماعي». وذكر فيه أن هناك عقدا وتعاقدا بين الحاكم والمحكومين ينص على تعهد الحاكم بالسهر على حقوق ورفاه المحكومين لقاء تسنمه الحكم. رد أدموند برك على ذلك بقوله نعم هناك عقد ولكنه ليس بين الحاكم والمحكوم، وإنما بين جيل الأمس والجيل الحاضر وجيل المستقبل. مفاده هو أن الجيل الحاضر يتنعم بحياته مع الالتزام بحقوق جيل المستقبل.

هذا أمر معروف في الإطار العائلي. فكلنا، أو قل أكثرنا، يوفرون شيئا من دخلهم الحاضر لإرث أولادهم. يذكرنا هذا بكلمات ذلك الفلاح الذي أجاب الخليفة بقوله «زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون». بيد أن ساسة اليوم في ظل الأنظمة الديمقراطية أخذوا يخرجون عن هذا العقد في حرصهم على الفوز بالانتخابات التالية. نراهم في الدول المتخلفة يشترون أصوات الناخبين بالدفع نقدا. في الدول المتطورة يشترون أصواتهم بزيادة أجورهم وتخفيض الضرائب وتوفير الخدمات. يدفعون تكلفة ذلك بالاقتراض، كما فعلوا في اليونان. فهم بدلا من أن يوفروا لجيل المستقبل أخذوا يرهقونه بهذه الديون وتسديد فوائدها.

هذا في الواقع سر الأزمة المالية العالمية الحالية. كل الدول الغربية غارقة في الديون. وبعضها تعجز حتى عن تسديد الفوائد السنوية. يلوح لي أن إقامة الديمقراطية في بعض البلدان العربية أخذت توقع حكوماتها في هذا الفخ. فحكوماتها تسعى لكسب الانتخابات بالإغداق على الناخبين بالاقتراض. وعت بعض الدول النفطية حكمة كلمات أدموند برك وصانت حقوق المستقبل بالصرف على البنية التحتية والتوفير والاستثمار في العقارات العالمية والمساهمة في الشركات الكبرى وحتى بشراء نوادي كرة القدم. العراق من هذه الدول النفطية ولكن ساسته أخذوا يسممون الديمقراطية برشوة الناخبين ونواب البرلمان بالرواتب والمعاشات والامتيازات طمعا في نيل أصواتهم. توسعت البيروقراطية وعشعش الموظفون والمستخدمون والمليون متقاعد في أعشاش خالية من البيض. لا تقوم بشيء ولا تنتج شيئا. وصلت الرواتب إلى حد خيالي اضطرت نواب المجلس للتطوع بتخفيض رواتبهم السخية. لا أحد يفكر في العراق بحقوق المستقبل، ولم التفكير والكل ينتظر يوم الرحيل للغرب؟ إنهم في وطنهم مجرد سياح وضيوف. كلما تحدثت مع أحدهم أجابك بالإشارة للرواتب والمنح التي تقدمها الدولة للموظفين والمتقاعدين والعاطلين وأرامل الحرب. لم نسمع الكثير عن أي استثمار في البنية التحتية سوى محاولة إصلاح ما بناه الجيل السالف بما يخلفه المسؤولون اللصوص من فضلات سرقاتهم. أصبح الشعب مثل المريض في غرفة الإنعاش، نائما على ظهره لا يقوم بشيء وإنما يأتيه الغذاء والأكسجين من أنابيب الإنعاش.

الخوف أن دول الربيع العربي ستقع في نفس المطب في سعي حكوماتها لإرضاء الناخبين، أبناء الجيل الحاضر على حساب أبناء جيل المستقبل.