مسلسل «عمر»

TT

لا يزال يلقى المسلسل التلفزيوني «عمر» عن الصحابي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الكثير من الجدل بين ممانع لعرضه ومشجع له، وقد كان الحكم على المسلسل قبل بدئه بشكل فيه كمّ مهول من المبالغة والتسرع والتشنج وخروج تصريحات مثل: «إن هذا المسلسل يسيء للإسلام، ولذلك يجب إيقاف عرضه». المسلسل في حلقاته الأولى يقدم عرضا فنيا مميزا للمجتمع المكي ويقدم الشخصيات عموما والصحابة منهم تحديدا بشكل متوازن وبشري يستطيع أن يستوعبه المتلقي بشكل منطقي.

ويبدو أن السيناريو والحوار قد تم الإعداد لهما بشكل جيد ولائق، مع عدم إغفال أن الإعداد التأسيسي للديكور والتصميم والملابس وتفاصيل الحقبة التاريخية قد تم أخذها في عين الاعتبار، بالإضافة إلى أنه كان هناك جودة في مراعاة اختيار الممثلين بحسب الأدوار المطلوبة منهم، والإخراج بصورة عامة كان مهنيا وفي غاية الاحتراف، وهو عمل ينقل الدراما التاريخية تحديدا والعربية عموما إلى مصاف العالمية، وواضح جدا أن الإنتاج كان سخيا ولم يوفر شيئا في سبيل إنتاج عمل مهم ومتكامل.

شئنا أم أبينا، يعتبر الإعلام إحدى أهم وسائل «المواجهة»، ولا بد من التعاطي معها، فالمسألة لم تعد خيارا، وبالتدريج ها نحن ننتقل من فكر كان إلى فترة قريبة يحرم الصور التقليدية ويقوم بحجبها أو وضعها بصورة مهزوزة، إلى فكر سيقبل إظهار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في أعمال درامية. إنها سنّة تدرج القبول وفهم المقصد وإحسان الظن. تقديم شخصية ثقيلة ولها وزن وقيمة أكثر من استثنائية في الحضارة الإسلامية هو تحدٍّ غير عادي ولكنها مسألة مطلوبة، فهناك أجيال كبيرة من الشباب المسلم لا علاقة له حقيقة بفهم الصحابة ومعرفة حقيقة شخصياتهم وسط جيل مقلّ في القراءة ومقبل على الإعلام الجديد بشتى أشكاله. وبالتالي، لا بد من مخاطبته بوسائله التي تعود عليها ورغب فيها.

حجة المنع والتحريم تبدو ضعيفة وغير مقنعة لأن الخير الذي ينتج عن هذا العمل يبدو كبيرا من جانب التثقيف والتوعية والترغيب والترفيه والتعليم عبر أسلوب عصري وحديث ومتقن ومحترم. كل الحضارات والثقافات والأديان تقدم قصصها ونماذجها وأبطالها بكل الأشكال عن طريق الكتاب المكتوب أو العمل المسرحي أو السينمائي أو التلفزيوني لأنها بذلك تكون المخزون الثقافي وتبني الذاكرة التراكمية لأجيالها حتى تتمكن من الحفاظ على الصورة المطلوبة والمعلومة والتفاصيل لتكوين الانطباع الدائم.

في السنوات الأخيرة بدأت الدراما التلفزيونية تخطو خطوات لافتة ومهمة، فقدمت أعمالا جريئة في مجال الشخصيات الدينية مثل خالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي، والشافعي، والبخاري، والنسائي، والترمذي، وعمر بن عبد العزيز، والحسن والحسين، والقعقاع التميمي، وكانت هذه الأعمال في كل مرة تلقى حدة النقد وتوتر الرأي، ولكن يبقى العمل موجودا وتبقى فائدته تعم.

حتما هناك الكثير من الأعمال التي من الممكن أن تقدم دراميا بشكل حديث فتثري الذاكرة الشبابية لأجيال المستقبل وتغير تكوين صورة أصبحت كالأسطورة في أذهانهم، مما جعلهم يبعدون تماما عن متابعتها ومحاولة التعرف عليها بشكل أعمق نظرا لأن الأسلوب المستخدم في ذلك نمطي وعتيق ورتيب وممل.

سيظل الجدل حول عرض مسلسل «عمر» مستمرا، ولكن نسب المشاهدة الكبيرة تؤكد أن الإنتاج لقي استحسان العامة ولقي القبول منهم، وهو الأمر الذي سيفتح الشهية لأعمال أخرى بنفس الحجم ونفس الجودة ونفس الجدلية لتعرض على الشاشات قريبا، فواضح جدا أن الجميع متعطش لذلك وأن القدرة الإنتاجية تحققت وأن هناك آراء فقهية توافق على ذلك وليس هناك إجماع بالمطلق على تحريم هذا النوع من الأعمال.

[email protected]