تبديد «الثروة» لتصدير «الثورة»

TT

بدد الحكم في إيران ثروات طائلة منذ عام 1979، عندما نجح آية الله الإمام الخميني في الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي، تحت شعار «تصدير الثورة».. وبعملية حسابية سريعة، يجد المرء أن الثروات التي بددتها إيران لا حدود لها، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على عملية التصدير المتواصل والمتصاعد لـ«الثورة الإيرانية»، لا يلمس الباحث في الشؤون الإيرانية نسبة بين حجم الهدر في الثروات الإيرانية والنتائج الملموسة لبضاعة الثورة المصدرة، ويمكن رصد خمسة أنواع من الميادين التي بددت فيها إيران ثرواتها طيلة الثلث الأخير من القرن الماضي، وهي:

الأول: مشاريع التمدد الإيراني في العالمين العربي والإسلامي.. ورغم عدم وجود إحصاءات وأرقام عن المبالغ التي ترصدها سنويا الحكومة الإيرانية لهذا الهدف، إذ تدخل ضمن السرية المطلقة، فإن النشاطات المرصودة في غالبية الدول العربية والإسلامية، التي تعتمد بالأساس على صرف مبالغ لأشخاص ومجاميع يقدر عددهم بمئات الآلاف إن لم يصل إلى الملايين، تكشف حجم الأموال التي تصرف نقدا لهؤلاء سنويا.. وإذا أحصينا هذه المبالغ على مدى ثلاثة وثلاثين عاما، نجد أن مئات المليارات من الدولارات قد أُهدرت خارج إيران وبعيدا عن المشاريع التنموية والخدمية التي تصب في مصلحة الإيرانيين، مما انعكس على مستويات المعيشة في إيران وازدياد نسبة الفقر وتفشي البطالة بين الشباب الإيراني.

الثاني: الإصرار على خوض الصناعات العسكرية الثقيلة؛ وفي المقدمة منها البرنامج النووي، الذي صرفت على تنفيذه إيران مبالغ طائلة جدا منذ انطلاقته في بداية سبعينات القرن الماضي (في زمن الشاه).. واتجهت إيران منذ بداية التسعينات من القرن العشرين إلى التوسع في هذا البرنامج الذي يعني هدر وتبديد المزيد من الأموال، ولم يتعظ الإيرانيون من التجربة العراقية المأساوية في هذا الجانب، عندما صرفت الحكومة العراقية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي ما يزيد على سبعين في المائة من ميزانية العراق على الصناعة العسكرية، وكان مصيرها التدمير الكامل والشامل من قبل لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة، التي بدأت نشاطاتها منذ بداية عام 1992، ولم تتوقف تلك النشاطات إلا قبل 48 ساعة من بداية الغزو الأميركي للعراق في مارس (آذار) عام 2003، حيث أتى التدمير على آخر ما تبقى من الترسانة العراقية، وهي صواريخ «صمود2» رغم عدم شمولها بقرارات الأمم المتحدة، لأن مدياتها لا تزيد على مائة وخمسين كيلومترا.

ويقرأ كثير من المراقبين أن مصير الأسلحة الإيرانية إن لم يكن مثل مصير الأسلحة العراقية، فإنها ستبقى داخل مخازنها حتى يصيبها الصدأ والتآكل. وحتى هذه اللحظة، لم يتوقف مسلسل التبديد الواسع للأموال الإيرانية على هذه البرامج التي يزداد الموقف الدولي صلابة ضدها.

الثالث: الشروع في برامج تثقيفية واسعة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتشمل بناء المراكز الثقافية، ودور العبادة، وتأسيس مراكز بحوث ودراسات، وإطلاق عشرات الفضائيات بعناوين إيرانية وبأسماء أخرى، تلتزم الخط الإيراني من ألفها إلى يائها، ومثل ذلك الأمر في ميدان الإذاعات والصحف، وقبل ذلك «توظيف مئات الشخصيات» من توجهات إسلامية وقومية لتبني المشروع الإيراني تحت واجهة دعم «المقاومة والممانعة».. يضاف إلى ذلك الأحزاب التي تقدم إيران لها مختلف أنواع الدعم.. وليس هناك أي دعم من دون أموال طائلة. وفي عملية حسابية سريعة، نجد أن عشرات المليارات من الدولارات قد بددتها الحكومات الإيرانية المتعاقبة في هذه الدهاليز، والغرض من كل ذلك «تصدير الثورة وإن كان على حساب الثروة».

الرابع: خسائر إيران بسبب الحصار المفروض عليها لإصرار الحكومة الإيرانية على تبني سياسيات تندرج في النهاية تحت مشروع تصدير الثورة، ويقدر الخبراء هذه الخسائر بعشرات المليارات من الدولارات أيضا.

الخامس: عند الحديث عن الخسائر التي تكبدتها إيران تحت عنوان «تصدير الثورة»، علينا أن لا ننسى خسائرها المادية الهائلة والبشرية في الحرب العراقية - الإيرانية (1980 – 1988) وتقدر خسائر إيران في تلك الحرب بما لا يقل عن مائتي مليار دولار، ناهيك عن الخسائر البشرية ومئات الآلاف من المعاقين وما يقرب من نصف مليون قتيل.

فلسفة تبني نهج تصدير الثورة تختلط فيها الأوراق في المنهج الإيراني، وكلما ازداد عمر هذه الصادرات، تراجع الأداء بسبب سياسات إيران المتناقضة خلال العقد الأخير، التي تقف فيها مع المشروع السياسي الأميركي الواضح والبين في العراق، بعد الغزو الأميركي عام 2003، وانفضاح تدخلها في هذا البلد العربي، الذي وصل إلى درجة يصفها البعض بـ«الاحتلال الإيراني للعراق» واتفاق واسع مع القوات الأميركية الغازية في ذلك. وعلى الطرف الآخر، يتساءل البعض عن حجم التنمية في إيران، لو وُظفت مئات المليارات التي بددتها خلال أكثر من ثلاثة عقود، في البناء والتعليم والصحة وميادين الحياة الأخرى.

لذلك، أعتقد أن الثورة الإيرانية قد وقعت في فخ «التصدير» فحصل هذا «التبديد» الجنوني للثروة الإيرانية.