الشجرة والغابة والبوعزيزي!

TT

عندما تم إيقاف والدة مفجر الثورة التونسية محمد البوعزيزي في السجن، صعق جميع من سمع الخبر، ومن فرط الصدمة فإن فهم دواعي الإيقاف وأسبابه كان أصعب من امتحان عويص في مادة الرياضيات!

فليس من السهل استيعاب إيقاف والدة البوعزيزي والحال أن ابنها أكثر شهداء الثورة رمزية وشهرة، خصوصا أن التهمة غير واضحة، بل غير مفهومة، ووزير العدل لم يوضح أكثر من قوله «لا أحد فوق القانون».

طبعا مثل هذا التصريح لا نقاش حول رجاحته، ولكن نعتقد أن استيعاب فورة غضب مواطنة متقدمة في السجن ووالدة مَن غيَّر تاريخ تونس وواقعها، ليس بالسلوك المنافي لروح القانون نفسه!

إلى حد هذه الحادثة تبقى المواقف مفتوحة على الشيء ونقيضه، أي بين الانتصار الحرفي والجاف للقانون، والوقوف إلى جانب والدة البوعزيزي واعتبارها تقاسم ابنها رمزيته.

ولكن في الحقيقة ما دعاني إلى الخوض في هذا الموضوع، على الرغم من أن حادثة الإيقاف مر عليها وقت في القياس الإعلامي يعتبر طويلا، هو حوار تلفزي مع والدة البوعزيزي أجرته قناة «التونسية» قبل أيام، قالت فيه من جملة ما قالت إنها منذ ما بعد الثورة إلى اليوم وهي تطرق أبواب الحكومة للحصول على جراية شهرية تجنبها العوز والحاجة، ولكن دون جدوى، مبرزة أنها اضطرت في شهر رمضان السابق إلى إعداد الملسوقة (ورقات دائرية من عجين يعد بها البريك الذي يمثل أكلة رئيسية في طاولة التونسي الرمضانية) وبيعها كي تتمكن من مجابهة الحاجيات اليومية.

لا أخفيكم سرا أني كمواطنة تونسية صعقت من عدم حصولها على جراية شهرية رمزية، أكثر من خبر إيقافها في السجن.

فهل عجزت وزارة الشؤون الاجتماعية عن تأمين مثل هذا المطلب وهي التي فقدت من كان يعولها الذي أضرم النار في جسده بسبب لقمة العيش؟

ثم.. أليست كل النخبة السياسية الراهنة من الرئيس المؤقت والوزراء والنواب وغيرهم، هم بشكل من الأشكال مدينون للشهيد محمد البوعزيزي الذي كان السبب المباشر لاندلاع الثورة، ومن ثم هروب الرئيس السابق وعودة المعارضين من المنفى وتحول من كان في الداخل وفي السجون من منطقة الظل إلى الضوء ودائرة القرار السياسي؟

من الصعب فهم سلوك اللامبالاة تجاه والدة البوعزيزي التي يبدو أنها أكثر الخاسرين والمحبطين، على الرغم من أن من حقها على التونسيين جراية شهرية تحقق لها كرامتها المادية والمعنوية. وربما بسبب هذه المعاناة خرجت عن القانون، كما قيل، وهو خروج لا يخلو من نبرة احتجاجية.

إن الاكتفاء بما ذهبنا إليه من استنتاجات وملاحظات لا يجعلنا نفهم بشكل موضوعي وحقيقي ما وصفناه بلامبالاة الحكومة تجاه المطلب البسيط والعادي والمشروع لوالدة البوعزيزي. ذلك أن وضع هذه المسألة في إطار ملف الشهداء ككل يبدد لنا أكثر من نقطة استفهام.

فالحكومة تتعامل مع الشهيد البوعزيزي مثل غيره من بقية الشهداء، أي أن الشهرة التي بلغها محمد البوعزيزي بوصفه أحد الأسباب المباشرة للثورة التي جعلت منه أشبه ما يكون بتلك الشجرة التي غطت الغابة، لا معنى لها في اعتبارات الحكومة وحساباتها.

ويبدو أن الحكومة تنظر إلى الغابة ككل وتسعى إلى معالجة ملف الشهداء أكثر من معالجة ملف شهيد بعينه. ومن ثم فإن المشكلة هي بين من ينظر إلى الشجرة داخل الغابة، ومن يرى أنه شجرة مستقلة عن الغابة.

من ناحية أخرى لا ننسى أن المحيط الاجتماعي نفسه الذي كانت تعيش فيه والدة البوعزيزي وأفراد عائلتها كان ضد شعورهم أو حتى محاولة شعورهم بأي تميز، وقد لحقهم من الأذى النفسي الكثير.

في هذا الإطار تكون لا مبالاة الحكومة مقصودة من منطلق أن كل تمييز لصالح عائلة البوعزيزي سيجلب لها المشاكل والاحتجاج.

وقلب القصيد أن درس البوعزيزي يذكرنا بأن عدم المبالاة هو ظاهرة ذات تاريخ في الثقافة والسلوك التونسيين، بل إن الذاكرة التونسية زاخرة بمآسي الأشجار التي أرادت قصدا أو من دون قصد أن تغطي الغابة!