لماذا يتعسر القضاء على مشكلة الفقر في أميركا؟

TT

كان هناك قول شهير لرونالد ريغان وهو «لقد دخلنا في حرب مع الفقر وكان النصر حليفه فيها». في ظل اعتبار 46 مليون أميركي - نسبة 15 في المائة من السكان - الآن من الفقراء، من المغري أن نعتقد أنه ربما يكون محقا في قوله.

إذا ما ألقينا نظرة أعمق قليلا، سيزداد هذا الإغراء. بلغ أدنى معدل فقر منذ أن بدأنا تقدير معدل الفقر 11.1 في المائة في عام 1973. وارتفع المعدل ليصل إلى 15.2 في المائة في عام 1983. وفي عام 2000، بعد موجة من الرخاء، هبط معدل الفقر مجددا ليصل إلى 11.3 في المائة، غير أن عدد الفقراء اليوم زاد بقيمة 15 مليون شخص.

في الوقت نفسه، اتخذنا كثيرا من الإجراءات التي أجدت نفعنا. فمن الأمن الاجتماعي إلى طوابع الطعام إلى ائتمان ضريبة الدخل المكتسب وما إلى ذلك، وضعنا برامج تنتشل الآن 40 مليون شخص من الفقر. كان معدل البطالة سيزيد إلى نحو ضعف معدله الآن من دون مثل هذه الإجراءات، بحسب مركز الميزانية وأولويات السياسة. القول إن «النصر حالف الفقر» أشبه بالقول إن قانوني الهواء النظيف والمياه النظيفة فشلا لأنه ما زال هناك تلوث.

ومع كل هذا، فلماذا لم نحقق المزيد؟ ثمة أربعة أسباب: العدد الهائل من الأفراد الذين يعملون بوظائف متدنية الأجور. إضافة إلى ذلك، فقد زاد الآن عدد الأسر التي يعولها أحد الأبوين وحده، مما يصعب حصولها على دخل يلبي احتياجاتها المعيشية من الوظائف التي تكون متاحة في المعتاد. إن الاختفاء الوشيك للمساعدات النقدية المقدمة للأمهات صاحبات الدخول المنخفضة والأطفال - على سبيل المثال، برامج الرفاهة - في معظم أجزاء الدولة يلعب دورا مساهما أيضا. علاوة على ذلك، فإن قضايا العرق والنوع المستديمة تشير إلى ارتفاع معدل الفقر بين الأقليات والأسر التي تعيلها أمهات عزباوات.

ويتمثل أول شيء نحتاجه إذا ما أردنا انتشال الناس من الفقر في توفير مزيد من الوظائف ذات الرواتب المرضية. ولا يوجد عدد كاف من هذه الوظائف في اقتصادنا الحالي. تتجاوز الحاجة إلى وظائف جيدة نطاق الأزمة الحالية: سوف نحتاج إلى سياسة توظيف شاملة واستثمار أكبر في النظام التعليمي الخاص بالقرن الحادي والعشرين واستراتيجيات لتنمية المهارات، إذا كنا نرغب في أن نجد أملا في الخلاص من الأزمة الاقتصادية الراهنة.

وليست هذه مشكلة متعلقة على وجه التحديد باللحظة الراهنة. فقد كنا غارقين في بحر من الوظائف متدنية الأجور على مدار الأربعين عاما الماضية. ويأتي الجزء الأكبر من دخل الأفراد الذين يعانون من الفقر من العمل. وبحسب أحدث بيانات متاحة من مكتب التعداد، يحصل 104 ملايين شخص (ثلث تعداد السكان) على دخول سنوية أقل مرتين من خط الفقر، أي أقل من 38 ألف دولار لأسرة مكونة من ثلاثة أفراد. وهم يكافحون من أجل سد رمقهم كل شهر تقل قيمة الدخل من نصف الوظائف في الدولة عن 34 ألف دولار سنويا، بحسب معهد السياسات الاقتصادية. وتدر ربع الوظائف دخلا تحت خط الفقر لأسرة مؤلفة من أربعة أفراد، بقيمة تقل عن 23 ألف دولار سنويا. وتنعم الأسر التي يمكن أن ترسل أحد البالغين الآخرين للعمل فيها بظروف معيشية أفضل، غير أن الأمهات العزباوات (والآباء العزاب) لا تملك هذا الخيار، حيث يتجاوز معدل الفقر بين الأسر التي لديها أطفال والتي تديرها أمهات عزباوات نسبة 40 في المائة.

تجمدت رواتب هؤلاء الذين يعملون بوظائف في النصف الأدنى منذ عام 1973، حيث زادت بنسبة 7 في المائة فقط.

إن هذا لا يعني أن الاقتصاد برمته قد أصيب بحالة ركود. فقد كان هناك نمو، لكنه توقف عند قمة الهرم. لقد أتى إدراكنا لحقيقة أن 99 في المائة منا قد تفوقت عليهم نسبة الـ1 في المائة الأعلى دخلا (البعض متراجع بدرجة هائلة عن الآخرين) متأخرا جدا. استحوذ الكساد العظيم على انتباه الناس، لكن الحقائق أخذت تتراكم لفترة طويلة. إذا كنا قد تيقظنا، فيمكننا اتخاذ إجراء.

تحبط الوظائف متدنية الأجور عشرات الملايين من الأفراد. على الجانب الآخر من نطاق الوظائف منخفضة الأجور، لدينا مشكلة مختلفة. فقد أحدثت شبكة الأمان المقدمة للأمهات العزباوات وأطفالهن فجوة على مدار الاثني عشر عاما الماضية. ويعتبر هذا سببا رئيسيا للزيادة الهائلة في معدل الفقر المدقع إبان تلك السنوات. يخبرنا تعداد السكان بأن 20.5 مليون شخص يحصلون على دخول أدنى من نصف خط الفقر، أي ما يعادل أقل من 9500 دولار لأسرة مؤلفة من ثلاثة أفراد - بارتفاع قيمته ثمانية ملايين عن عام 2000.

لماذا؟ يتمثل سبب جوهري في الاندحار الوشيك لبرامج الرفاهة - التي تعرف الآن باسم «المساعدات المؤقتة للعائلات المحتاجة». في منتصف التسعينات، كان أكثر من ثلثي الأطفال في الأسر الفقيرة يتمتعون بمزايا برامج الرفاهة. غير أن هذا الرقم قد قل خلال العقد والنصف الماضي ليصل إلى نسبة 27 في المائة تقريبا. نتيجة واحدة: لا يملك 6 ملايين شخص أي دخل خلاف طوابع الطعام. توفر طوابع الطعام دخلا يصل إلى ثلث خط الفقر، أي ما يقرب من 6300 دولار لأسرة مؤلفة من ثلاثة أفراد. من الصعب فهم كيف يعيشون بمثل هذه الدخول.

على الأقل لدينا طوابع طعام. وكانت بمثابة أداة قوية مضادة للركود خلال الخمس سنوات الماضية، مع ارتفاع عدد متلقيها إلى 46 مليونا اليوم عن 26.3 مليون عن 26.3 مليون في عام 2007. بالمقارنة، لم تسهم برامج الرفاهة بدرجة كبيرة في صد تأثير الركود؛ على الرغم من أن عدد الأفراد الذين يحصلون على مساعدات نقدية ارتفع من 3.9 مليون إلى 4.5 مليون منذ عام 2007، فقد قللت الكثير من الولايات بالفعل المزايــــا الممنوحة لهؤلاء الذين هم فــــــي أمس الحــــــاجة إليها.

يلعب العرق والنوع دورا مهما في تحديد مسار استمرار الفقر. تعتبر الأقليات فقيرة بشكل غير متناسب: نحو 27 في المائة من الأميركيين من أصول أفريقية ومن أصول لاتينية والهنود الحمر فقراء، في مقابل 10 في المائة من البيض. وثمة تفاوت أوسع نطاقا في الثروات. في الوقت نفسه، يشكل البيض العدد الأكبر بين الفقراء. وتعتبر هذه حقيقة تمثل تأكيدا، إذ إن الإجراءات الهادفة إلى زيادة الدخل وتوفير فرص عمل سوف تمد يد العون للبيض أكثر من الأقليات. غير أنه لا يمكننا أن نتجاهل مشكلة العرق والنوع، نظرا لأنهما يمثلان تحديات بعينها ولأن كما هائلا من سياسات الفقر يرتكز على مثل تلك القضايا. نحن نعرف ما نحتاج لمعرفته - جعل الأثرياء يدفعون نصيبهم العادل في إدارة الدولة ورفع الحد الأدنى للأجور وتوفير رعاية صحية وشبكة أمان مقبولة وما شابه ذلك. غير أنه في واقع الأمر يتمثل التحدي المباشر في الاحتفاظ بما نملكه. من المنتظر أن يقوم النائب بول ريان ونظراؤه في أسلوب التفكير بتقليص كل الخدمات بدءا من التأمين الاجتماعي إلى برنامج الرعاية الطبية وغير ذلك من قائمة الخدمات الأخرى، وأن يمنحوا مزيدا من الإعفاءات الضريبية للأفراد الذين يحتلون قمة الهرم. أظن أن روبين هود يتقلب في قبره.

لا ينبغي أن نخدع أنفسنا. فليس من المؤكد ما إذا كانت الأمور ستظل على ما يرام مثلما هي الآن أم لا. فثروة ودخل نسبة الـ1 في المائة التي تأتي على قمة الهرم تكون على حساب المواطنين الآخرين. إن المال يولد السلطة والسلطة تولد المزيد من الأموال. فهي حلقة مفرغة بالفعل.

من المنتظر أن تشمل سياسات التغيير الناجعة بالضرورة إدخال الأفراد في الفئة الوسطى - من نسبة الثلاثين إلى السبعين في المائة - كي يحققوا مصلحتهم الاقتصادية الخاصة. إذا فضلوا مصلحتهم الشخصية، فسوف ينتخبون أشخاصا من المرجح أن يكونوا أكثر توافقا مع أصحاب الدخول الأقل وأيضا معهم. وما دام من هم في الفئة الوسطى يتشابهون بدرجة أكبر مع من هم في قمة الهرم من تشابههم مع من هم في قاعه، فمصيرنا إلى الفشل. ويزيد كم الأموال الذي يتدفق إلى العملية الانتخابية من صعوبة الأمور.

غير أن التاريخ يشير إلى أن سلطة الناس تجدي نفعا في بعض الأحيان. وهذا ما حدث في الحقبة التقدمية قبل عقد وفي فترة الكساد العظيم أيضا. وقد أسفر عدم التكافؤ الاجتماعي الهائل في تلك الفترات عن مزيج من الاهتياج الشعبي والصحافة السباقة إلى الفضائح والقيادة السياسية التي هاجمت المشكلة الهيكلية الكبرى الممثلة في عدم التكافؤ الاقتصادي. لقد غيرت حركة الحقوق المدنية مسار التاريخ ودخلت في نطاق حركة حقوق المرأة وحركة الحفاظ على البيئة، ومؤخرا في حركة الدفاع عن حقوق المثليين. هل كنا نظن في اليوم الذي سبق بزوغ كل حركة من تلك الحركات أنها ستظهر، فما بالك بنجاحها؟ هل كانت روزا باركس تعلم؟

لدينا المقومات. من ناحية، تتغير الإحصائيات السكانية للناخبين. ونادرا ما تكون تبعات ذلك مباشرة، لكنها تخلق فرصة. إن الجيل الجديد من الشباب - الذي عادة ما يكون في حالة من الارتياب في السلطة المترفة في كل المؤسسات، ونتيجة لذلك، يتجه نحو مذهب الليبرتالية (أو مؤيدي مبادئ الحرية) يكون متأهبا لسياسات أمانة جديدة. سوف يشارك أصحاب الدخول المتدنية، إذا كان هناك مرشحون يوجهون اهتماما لظروفهم. يجب أن يأتي التغيير من أدنى إلى أعلى ومن القيادة المتضافرة التي تطيل أمده. حينما يقرر الناس أنه قد أصبح لديهم ما يكفيهم وأن هناك مرشحين يعبرون عما يريدونه، فسوف يصوتون لهم بالتبعية.

لقد شاهدت أياما من الوعود وأياما من الغموض، وشاهدتها أكثر من مرة. التاريخ كله على هذه الشاكلة. الناس لديهم السلطة إذا ما أرادوا استخدامها، لكن عليهم إدراك أنه في صالحهم القيام بذلك.

* خدمة «نيويورك تايمز»

* بيتر إديلمان أستاذ القانون بجامعة جورج تاون والذي ألف مؤخرا كتاب: «أغنياء جدا، فقراء جدا: لماذا يعتبر القضاء على الفقر في أميركا

مهمة بالغة الصعوبة؟».