عجز الديمقراطية الكويتية عن الإقلاع

TT

يحزنني عجز كثيرين في الكويت، بعد طول عناء مع الممارسة الديمقراطية، عن استيعاب درس بسيط من دورس علم الاجتماع السياسي، وهو «التعلم من الأخطاء»! فكلما ارتكب خطأ، عاودت أطراف اللعبة ارتكابه من جديد، وبنفس الطريقة. في رمضان هذا يدور الحديث مجددا عن الأزمة التي يبدو أن جميع الفرقاء لا يعرفون لها حلا حتى الساعة. التفاصيل كثيرة ومعروفة للمتابع ولكنها باختصار، تعطيل المحكمة الدستورية المجلس القائم (ما عرف بمجلس 2012) واستدعاء المجلس السابق (ما عرف بمجلس 2009) المشهور بأنه مجلس النساء الأربع!، حتى الآن الأمر يبدو طبيعيا. إلا أن غير الطبيعي هو أن يرفض معظم أعضاء مجلس 2009 تحت الضغط أو القناعة العودة إلى الممارسة العملية، بسبب تهديد سيف الحل على رؤوسهم أو لأسباب أخرى، وبالتالي تعطيل العجلة السياسية للدولة، كما أن «المعارضة الموسعة الائتلافية» تريد حل ذلك المجلس والدعوة إلى انتخابات جديدة فورية. معضلة أخرى هي اكتشاف «أسنان قوية» للمحكمة الدستورية تستخدم للمرة الأولى. ويبدو أن هناك قلقا من أن تبطل تلك المحكمة، التي اكتشفت قوتها في قانون الانتخاب القائم على الدوائر الخمس، على أساس أن التقسيم العددي، ينافي العدل والمساواة بين جموع المواطنين، فهناك أعداد غفيرة في دائرة، وأعداد أقل منها بكثير في دائرة أخرى! ويحاول الخبراء الدستوريون في رمضان الكويت الساخن جدا ومعهم السياسيون، شرح هذه المعضلة، إما بنشر المقالات في الصحف، أو ريادة (الديوانيات) الليلية التي يتحول معظم روادها إلى خبراء دستوريين وسياسيين من نوع ما!

من جهة أخرى، تدور في نفس المؤسسة (الديوانية الكويتية) وثيقة من أجل التوقيع الجماهيري، سميت بـ«الوثيقة الدستورية»، يقف وراءها ما يعرف بالمعارضة الموسعة، لجلب تواقيع أكبر عددا من المواطنين؛ لرفض ما يتوقع أن تقوم الحكومة بفعله (التعديل للدوائر الانتخابية أو التغيير في عدد الأصوات التي يحق لكل ناخب الإدلاء بها) أي المطالبة بإبقاء الحال على ما هو عليه، وعودة معظم أعضاء مجلس 2012 من جديد، والدخول مرة أخرى في الدوامة السياسية الكويتية التي تبحث عن الاستقرار السياسي كما يبحث ديوجين عن ضالته. اللافت كذلك أن «المعارضة» متفقة تقريبا على ما لا تريد، إلا أنه لا يوجد إجماع أو شبه إجماع على المرغوب تحقيقه سياسيا، حيث إنها معارضة «ائتلافية لأغراض محددة» بل إن بعض أفرادها يخلط بين السياسة والوعظ، ولا يجيد أيا منهما، وتلك أحد أسباب العوار السياسي في الكويت.

يتجاهل الجميع أن الديمقراطية نظام (سيستيم) متكامل، لا تستطيع مهما بلغت من الحنكة أن تجتزئ منه جزءا وتدعي أنه يمكن أن يعمل بكفاءة، كأن تشتري ماكينة سيارة دون جسمها وتدعي أنها يمكن أن توصلك إلى مقصدك، أو تشتري نظام تكييف مركزي بلا غاز، ثم تدعي أنه سيبرد المنزل. السيستم أو النظام الديمقراطي ليس دستورا، على أهميته، وليس صناديق انتخاب ودوائر انتخابية على أهميتها، ولكنه أيضا تنظيمات سياسية مدنية حديثة، سمها منابر أو سمها تجمعات سياسية. إلا أن الأخيرة واجب أن تكون منظمة بالقانون، وبعيدة عن الجماعات الاجتماعية القرابية كالقبيلة أو الفئوية كالطائفة أو المناطقية! التي خلقت في نصف القرن الماضي ما يمكن تسميته بـ«الزعامة الاستزلامية» من خلال تضامنية الطائفة والقبيلة والمذهب، وتجاهل متعمد عن إعلاء قيمة المواطنة الحقة.

أسباب الأزمة السياسية المتطاولة في الكويت أنها أخذت بجزء من «السيستم» وتجاهلت مكوناته الأخرى الضرورية كي يعمل بكفاءة، وصارت الأزمات السياسية المتوالية في الكويت هي كتوصيف العميان للفيل، كل يصفه أينما يجسه! وبالتالي كل جماعة أو كل شخص يريد «السيستم» كما يتصور أنه يخدم مصالحه! الأزمة السياسية الكويتية لا تحتاج إلى خبراء من أي نوع، إنما تحتاج إلى شجاعة سياسية.

تمثيل آخر للمعضلة الكويتية، أن البلاد استوردت نظام، إن استخدمنا مصطلحات التقنية الحديثة، «هارد وير» حديث، ورغبت أن تشغله «بسوفت وير» قديم، وأقصد بالقديم، المفاهيم والقيم والعلاقات الاجتماعية التي حاول البعض حشرها في النظام الجديد! (الهارد وير)، الدستور وصناديق الانتخاب، وتجاوز ما تتطلبه من «السوفت وير» المناسب لها، وهو التنظيم الحديث للتيارات السياسية، يعطل الاستفادة من النظام. تلك هي المعضلة التي لا نجد لها حلا بعد كل التجربة الطويلة والشقاق الاجتماعي والتعطيل التنموي، إنها «كربلائية مستمرة من الشقاق» في ثقافتنا السياسية العليلة، هي جزء من المعضلة، إنها معتمدة على فقه التوحد الشكلي، لا فقه الاعتراف بالتنوع والحذق في إدارته، وتقديس الوسائل ونسيان المقاصد.!

قلت إن ما ينقصنا هو الشجاعة السياسية، لا شرح وإعادة شرح النصوص، أرى أن الشجاعة السياسية هي التفكير بطريق جديدة ومختلفة ومعتمدة أساسا على مبدأ أن ما كان ناجحا نسبيا أيام التأسيس بالضرورة هو محدود بمكانه وزمانه، وقد اختلف اليوم عن الأمس كل الاختلاف. من هنا لزم قول الحق ولو كان مرا، فالأولى أن تقوم الإدارة السياسية بتطوير حزمة كاملة من النصوص الحديثة التي تقوم اعوجاج التجربة السابقة المتعثرة، بعد دراسة دقيقة، على أن تكون هذه النصوص الجديدة متسقة مع التطور الإقليمي والعالمي والمحلي، وتعرض هذه النصوص على الجمهور العام في استفتاء جماهيري كامل الشفافية، إن أقرت تلك النصوص التي تعالج العوار وتقلل من التوتر الاجتماعي، تعتبر مكملة للنصوص الدستورية، وبما أن الاتفاق على أن «الأمة هي مصدر السلطات» فإن العودة إليها سياسيا هو الأقرب إلى الخروج من هرتقات تفسيرات النصوص القائمة. المرشد في سلامة الأوطان هو اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، ولقد تم ذلك حولنا أكثر من مرة في السنوات القليلة الأخيرة، كما حدث، على سبيل المثال لا الحصر، في المغرب وغيره من البلدان.

دون ذلك فإن التوتر الاجتماعي - السياسي في الكويت سوف يتصاعد إلى آفاق لا يرغبها العقلاء، وإلى مزالق تسبب انعدام الرؤية، والولوج إلى طريق مسدودة يزيد من توتر عدم الاستقرار، كما أن المعالجة الموضعية والجزئية التي يحاول البعض تقديمها، هي مسكنات للوجع وليست قاضية على الداء، إن هذا التوتر البنائي الدائم في الكويت والمسبب لأزمات دورية، يحتاج إلى علاج عن طريق تفكيك العقبات التي ثم اكتشافها أثناء الممارسة، ووضع حلول لها لبناء النظام السياسي من جديد، فلم يعد شراء الوقت في صالح أحد، ولم يعد اختزال الانسداد السياسي في نصوص قانونية بنافع.

آخر الكلام

ما يوجع حقا، ما قرأته في أحد الصحف الخليجية وهو إعلان يقول «دع رقم سيارتك يميزك» أي اشتر رقما صغيرا للسيارة حتى تفوز بالتميز! هل هناك أكثر وجعا للعقلاء من هذا، فبدلا من أن يكون ما يميز الإنسان حقا هو العلم والأخلاق، تحول إلى رقم سيارة؟