«الجيش العربي السوري».. وخيار الاستسلام!

TT

في أواخر أيام الحرب الأهلية الأميركية، حاصرت قوات الجنرال يوليسيس غرانت قائد جيش الاتحاد الشمالي (رئيس الولايات المتحدة في ما بعد) قوات نظيره الجنرال روبرت لي قائد جيش الجنوب في معركة بترسبيرغ.

كانت المعركة غير متكافئة، 3 إلى 1، هذا بالإضافة إلى انهيار معنويات الجيش الجنوبي وقلة عتاده. قرر الجنرال غرانت أن يمنح نظيره فرصة الاستسلام لحقن الدماء، مع التعهد بإخلاء سبيل الضباط والجنود الجنوبيين، من دون أية ملاحقة قانونية إذا ما سلموا أسلحتهم، ووقعوا على وثائق تسريحهم من الجيش.

قَبِل الجنرال لي ما تمت تسميته لاحقاً «شروط غرانت»، واحتفظ بسيفه وحصانه كدلالة رمزية على احترام الاتفاق، وبذلك انتهت الحرب الأهلية التي دامت أربعة أعوام، وحصدت آلاف الضحايا. لقد انتقد غرانت في البداية، لأنه سمح لبعض القادة الذين بدأوا الحرب بالذهاب إلى بيوتهم من دون محاكمة، ولكن عددا من المؤرخين يثبتون اليوم، بأن قرار غرانت شجع بقية قادة الجنوب على الاستسلام والذهاب لبيوتهم، بل وحال، في الحقيقة، دون استمرار النزاع المسلح بين الشمال والجنوب، وشجع على المصالحة.

من الصعوبة العثور على مثال كهذا في التاريخ العربي المعاصر، فلا يكاد يذكر أن قائدا عسكريا عربيا جنب جنوده غلواء الانتقام والعنف، بالركون للاستسلام حينما يكون ضرورة، بل يمكن القول إن الثقافة العربية قديمها وحديثها، لا تشجع على القبول بالحل السلمي، متى ما بدت الحرب ـ أو استمرارها - عبثاً.

لقد فشل القذافي في مغامرته الحربية في تشاد، وبدلاً من اللجوء للمصالحة، سعى النظام لمحو سيرة الحرب، والتنكر لقتلاها، ومن بقي منهم من جرحى الحرب. وخاض كل من العراق وإيران حرباً عبثية لأكثر من ثمانية أعوام، لم يتمكن فيها أي طرف من الانتصار في شيء، وعلى الرغم من توقيعهما على اتفاقية لإنهاء الحرب، اعتبر كل طرف نتيجة الحرب انتصاراً لخطابه المتشدد.

هزم صدام حسين في حرب الخليج الثانية، واضطر إلى الاستسلام أمام قوات التحالف الدولية، ومع ذلك اعتبر النتيجة انتصارا لما سماه «أم المعارك»، وعرّض شعبه لعقوبات قاسية لأكثر من عقد من الزمان.

حزب الله الذي افتعل حربا عبثية مع إسرائيل، تسبب فيها بضرر هائل للبنان، اعتبر الحرب نصراً إلهياً، فيما الحقيقة أنه هزم واضطر لقبول شروط الاستسلام والتراجع عن مواقعه لصالح قوات «يونيفيل» لحفظ السلام.

انهيار الجيش العراقي أثناء الغزو الأميركي في عام 2003، فوت الفرصة الثمينة لاستسلام الجيش النظامي، والحيلولة دون سياسة اجتثاث البعث السيئة السمعة، ولجوء آلاف الضباط البعثيين إما إلى الهجرة أو العمل تحت الأرض، والتحالف مع الإرهاب لمواجهة جلاديهم من الحكام العراقيين الجدد. لقد انتقد كثيرون قرار الحاكم الأميركي للعراق - في حينها - بول بريمر، بحلّ الجيش العراقي، حتى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن ووزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد، انتقدا في وقت لاحق ذلك القرار، بيد أن بريمر الذي رفض تلك الاتهامات، كان قد قدم لصحيفة «نيويورك تايمز» صور المراسلات بين الرئيس ووزيره حول تنفيذ القرار (رسائل المبعوث تناقض رواية بوش: 4 سبتمبر 2007). وفي معرض دفاعه عن قراره قال بريمر: «الجيش العراقي كان قد هجر مواقعه.. لم يكن هناك جيش ليتم حله» (عامي في العراق، 2006: 235).

ما تتعرض له سوريا اليوم من حرب أهلية بين «الجيش العربي السوري» والجيش الحرّ المكون من المنشقين والمتطوعين هو نموذج آخر لعبثية الحرب، حيث استطاع نظام الرئيس بشار الأسد أن يستخدم جيشه في حرب ضد شعبه، حتى تمكن من إشعال حرب أهلية وطائفية، وتقسيم الجيش الوطني إلى فريقين من دون أن يتوقف قادة الجيش النظامي للحظة ليسألوا أنفسهم: هل يستحق النظام كل هذه التضحيات؟!

السيناريو المطروح اليوم هو رحيل النظام، ولكن ليس ثمة دليل على أن الأسد مستعد للمغادرة، ولا بوادر لانشقاق عسكري على مستوى قادة الجيش، الذي تحول مع الوقت إلى مؤسسة متورطة في القتل والتدمير لأبناء شعبها. فهل بعد كل تلك الدماء يمكن أن يتم الحفاظ على مؤسسة «الجيش العربي السوري»؟

هناك أطراف دولية تحاول الترويج لسيناريو يتم فيه رحيل الرئيس الأسد، والإبقاء على مؤسسة الجيش حفظاً لنظام الدولة من الانهيار، وخوفاً من تصاعد الحرب الطائفية بين العلويين والسنة من جهة، وانشقاق الأكراد من جهة أخرى.

انشقاق العميد مناف طلاس - وهو القريب من الرئيس - يمثل فرصة لبعض الأطراف الدولية والعربية، لتقديم بديل مؤقت ومقبول - ربما - للجيش السوري عن الاستمرار في القتال لصالح الرئيس الأسد. حاول طلاس تقديم خطاب بديل عبر دعوة «الجيش العربي السوري» إلى وقف الاقتتال، واعتبار مقاتلي الجيش الحرّ امتدادًا للشرفاء، ولكن هناك من يرى أن تلك الدعوة جاءت متأخرة، فالمقاتلون الذين استطاعوا زعزعة القوات النظامية، والاقتراب من لحظة الانتصار - وإن بدت بعيدة - لن يكون بمقدورهم العودة إلى صفوف جيش مازال يقاتل إلى جانب النظام الذي ثاروا ضده، بل هناك مؤشرات توضح أن عدد المنشقين خلال الشهور القادمة قد يتجاوز تعداد الجيش ذاته، مما يعني أن الجيش النظامي لم يعد ممثلاً لكافة فئات المجتمع السوري، بل حكراً على جزء من الطائفة «العلوية»، ومن بقي من الجنرالات السنة والمسيحيين الموالين للأسد.

هل يعني ذلك استحالة المصالحة بين الجيش النظامي والجيش الحر؟

تبدو الإجابات متعارضة، فهناك من يرى أن الأزمة تجاوزت إطار المصالحة لتورط الجيش النظامي في جرائم حرب، وهناك من يجادل بأن الفرصة لا تزال سانحة، ولكنها تتطلب من قادة الجيش قراراً حازماً بالانضمام إلى الانتفاضة الشعبية ضد النظام. هناك من يحذر ـ أيضاً - من أن حلّ الجيش، أو الانخراط في عملية اجتثاث للبعث بعد انهيار النظام، قد تتسبب في حرب أهلية وطائفية قد لا تنتهي، على غرار ما حدث في العراق، ولأجل هذا فهم يرون ضرورة أن يقود العملية الانتقالية شخصيات مقبولة من الطرفين: الجيش النظامي والثوار. لقد صرح مسؤولون أميركيون بأن إدارة أوباما حذرت المعارضة السورية من مغبة تسريح القوات الأمنية التابعة للرئيس الأسد، والأجهزة الحكومية بشكل كامل، إذا ما قتل أو أجبر على مغادرة السلطة، لتجنب الفوضى وفراغ السلطة. يقول مسؤول أميركي: «لا يمكنك حل هذا النظام بشكل كامل؛ لأن هذه المؤسسات ركن أساسي في عملية التحول السياسي». وتابع المسؤول مشيرا إلى حركة الأسد القومية العربية الحاكمة: «نحن بحاجة إلى منع اجتثاث البعث من البلاد» (واشنطن بوست، 29 يوليو 2012).

هنا تبدو الانتفاضة السورية أمام سؤال مصيري: هل تغلب طريق المصالحة والعفو، أم تختار مسار الاجتثاث والانتقام؟ لا أحد يملك الإجابة، لأن المعارضة السورية على الرغم من وجود المجلس الوطني والجيش الحرّ لا تزال منقسمة، ولا تملك برنامجاً انتقالياً ـ واضحاً - من شأنه أن يعزز التوافق الوطني، ويجنب البلاد غلواء التشظي والفرقة الداخلية بين الطوائف.

في رأيي، أن الحل بيد الجيش النظامي، فإذا ما قرر التخلص من الأسد، فإن بوسعه الانضمام إلى الانتفاضة والمشاركة في العملية الانتقالية، ولكن كل يوم يتأخر فيه هذا الجيش عن الانشقاق، يعني فرص بقائه كمؤسسة تتضاءل. قد يجد الجيش نفسه بلا قيادة في حال فرار الأسد أو قتله، ولا بد حينئذ أن يظل متماسكاً، وأن يعلن استسلامه ـ رسمياً - لجيش الانتفاضة، ففي هذه الحالة يكون بوسع الجيش، التخلي رمزياً عن وزر ما حدث، وأن يظل باقياً في المرحلة الانتقالية القادمة. بل يلعب الدور المؤهل له في إعادة اللحمة إلى الوطن بعدما فرض عليه أن يساهم في إضعاف وحدته.

يقول يوليسيس غرانت: «إذا خاض العسكري الحرب بطاعة تداني العبودية، فإنه سيخسر»