بغداد يا بلد الرشيد

TT

إذا كان المصريون يصفون مصر بأم الدنيا فالعراقيون اعتادوا أن يقولوا بغداد ست البلاد. كثيرا ما لمست حيثما ذهبت لبلدان إسلامية أن القوم يبدون احتراما خاصا لي حالما يكتشفون أنني ابن بغداد، فلاسمها رنين ترجع القرون صداه، أيام كانت بغداد عاصمة للإمبراطورية الإسلامية. هذا ما يجعلني أعتقد بمناعة الوحدة الوطنية للعراق، فمهما تشاحن وتخاصم العراقيون، عربا وأكرادا، شمالا وجنوبا، فلا أراهم يغامرون بالانفصال عن بغداد، إلا إذا استطاعوا الحصول على معادلة لتقسيم هذه المدينة فيما بينهم، تبة الكرد للكرد، ودربونة العجم للعجم، ومقهى عقيل للعرب، الكاظمية للشيعة، والأعظمية للسنة، وكمب الأرمن للأرمن، ومقبرة الإنجليز للإنجليز.

لبغداد لمعان قوي في قلوب وأفكار الكثيرين من عرب وإفرنج، ولكنهم ما أن يطأوا أرضها في العهود القريبة حتى تصيبهم خيبة كبيرة، يعود ذلك اللمعان لما يقرأونه في الكتب عنها، ولا سيما حكايات ألف ليلة وليلة، كانت بغداد حتى سقوطها بيد المغول، العاصمة الحضارية للعالم، تماما مثل باريس ولندن وفيينا في العصر الحديث.

وقد عبر الشاعر الشعبي عن حبه لبغداد في قوله: «بغداد مبنية بتمر، احفر وكل خستاوي!».

بفضل هذه المكانة التي تحتلها بغداد في قلوب العرب، شاع استعمال اسمها في الكثير من الميادين، قلما يوجد بلد عربي من دون عائلة راقية تحمل لقب «البغدادي»، والبغدادي في لبنان اسم لموال يعتبر من أرق أغاني المواويل الشامية، وفي مصر يطلقون كلمة «البغدادلي» على أعمال الخشب المشبك الدقيق، و«البغدادية» ضرب من الملابس الأنيقة ورد ذكره في قاموس «محيط المحيط»، وأصبحت كلمة «التبغدد» كلمة شائعة الاستعمال في عموم العالم العربي والقواميس العربية للإشارة إلى الدلال والدلع والتأنق والغنج، تسمعهم يقولون: «فلان يتبغدد علي!» وهو ما أشار إليه الجواهري في نونيته الشهيرة عن بغداد ودجلتها:

يا أم بغداد من ظرف ومن غنج

مشى التبغدد حتى في الدهاقين

يا أم تلك التي من ألف ليلتها

للآن يعبق عطر في التلاحين

أواه يا أبا فرات، رحمك الله! أي عطر بقي من بغداد غير رائحة الدماء والمجاري القذرة؟

في هذه القصيدة الخالدة «دجلة الخير» وسواها من قصائده الرومانطيقية عبر شاعرنا عن تلك العاطفة التي اجتاحت قلوب سائر شعراء العراق، حنينهم لبغداد، ابتداء من أبي زريق البغدادي بعد رحيله للأندلس:

أستودع الله في بغداد لي قمرا

بالكرخ من موطن الأفلاك مطلعه

إلى معروف الرصافي الذي كتب في منفاه بعيدا عنها ساخطا عليها فقال:

إليك يا بغداد عني

فإني لست منك ولست مني

ولكني وإن كبر التجني

يعز يا بغداد أني

أراك على شفى هول شديد

هكذا عبر الرصافي عن تشاؤمه من مستقبل مدينة المنصور، بيد أننا في طفولتنا بقينا نتغنى بكلمات الشاعر المصري:

بغداد يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليد