مَن علّم النحلة هذا السلوك؟

TT

إنني من المؤمنين بأن المحيط والبيئة هما اللذان يمليان على الإنسان سلوكه وأخلاقياته. ينطبق ذلك على الإنسان كما ينطبق على الحيوان. وقد اكتشفت أخيرا أنه ينطبق على الحشرات أيضا.

يعجب معظم الناس بسلوك المواطن الإنجليزي ودماثة خلقه. وهو أمر يعود أساسا لاعتدال مناخهم ووفرة غذائهم وعدم تعرضهم للعدوان الخارجي. كان من نتائج ذلك روحهم الرياضية وهوسهم بالألعاب الرياضية وابتكارهم لها. ومنه أيضا بعض العادات والسلوكيات الحضارية. يأتي في مقدمتها نظام الصف أو الطابور أو الكيو، أي وقوف المواطنين في الصف انتظارا لدورهم. ابتكر الإنجليز هذا السلوك خلال الحرب العالمية الثانية، حرصا على النظام في زمن الحرب. واشتقوا كلمة الكيو (queue) هذه من مصطلحات الفروسية القديمة التي كانت تعني ذيل الحصان. انتهت الحرب ولكن الإنجليز تيمنا بالنصر تمسكوا بعادة الكيو. لا يرى أحدهم نفرا من الناس واقفين في صف حتى يقف في نهاية الصف دون أن يسأل عن سر وقوفهم. يقف ثم يكتشف أنهم واقفون انتظارا لمرحاض خالٍ. ومنهم تعلمت الشعوب الأخرى نظام الكيو حتى في قضاء الحاجة.

الطيور في عالمنا العربي تهرب منا. لا ترى واحدا منا يقترب منها إلا وفتحت أجنحتها وحلقت بعيدا. لماذا؟ لأنها تعرف أننا سنصطادها ونذبحها ونأكلها. هنا في الغرب لا تهرب الطيور من البشر. لا تراك جالسا إلا وتحط أمامك على الطاولة وتنظر إليك بعطف ومحبة وتستعطفك بأن تطعمها بشيء من الكعكة التي تأكلها. ترى الحمام في ساحة الطرف الأغر بلندن يزدحم حول السياح وبائعي الذرة. تمسك براحتك حفنة من الذرة فيحط الحمام على ذراعك ويصطف بشكل كيو. يأخذ الأول نصيبه وينطلق تاركا حصة للآخرين يتقدمون واحدا بعد الآخر بانتظام ودون عركة ودوشة. تقف وتتعجب. مَن علّم هذا الحمام نظام الصف؟ تُرى هل تعلموه هم أيضا خلال الحرب من الجنود الإنجليز؟ إنها البيئة.

كنت جالسا في حديقة بيتي، وإلى يميني حنفية الماء. كانت حنفية قديمة تالفة. وكانت قطرات الماء تتسلل منها وتنقط، نقطة نقطة، بشكل رتيب. رأيت النحل يتجمع عليها ليشرب. لم أكن أعرف أن النحل أيضا يشرب الماء ويميز أيضا بين الماء الآسن في الساقية والماء النقي الصحي من الحنفية. رأيت نحلة واحدة تحط على فوهة الحنفية وتشرب من نقطة الماء المتجمعة. نظرت فوجدت بقية النحل تتجمع في صف واحد على قبضة الحنفية في الأعلى ينتظرون دورهم في الشرب! يا للعجب! قلت لنفسي: حتى الزنابير في هذا البلد تلتزم بالكيو. مَن علّمها ذلك؟ هل تعلمته من الحمام الذي تعلمه من جنود صاحبة الجلالة؟

يا سبحان الله! قل معي يا سيدي القارئ، متى يتعلم ساستنا وقادتنا، أمثال بشار الأسد وزمرته، من الزنابير والعصافير احترام نظام الكيو في الشرب وأكل الكعكة؟ كل يأخذ نصيبه منها ثم يرحل ليعطي الآخرين الواقفين في الكيو حصتهم من الكعكة، قوت الشعب وثروة الأمة، يأكلون منها بالحسنى ودون قاتل ومقتول إلى حين من الزمن ثم يرحلون!