في حضرة أولمبياد لندن!

TT

لم أكن رياضيا ولا خبيرا رياضيا في يوم من الأيام؛ ومع ذلك كانت الرياضة كنمط للمنافسة الإنسانية وكظاهرة اجتماعية في النهاية من الأمور التي خلبت اللب، تماما مثل المسرح أو الأدب أو الموسيقى التي اكتسبت صفات عالمية إنسانية بغض النظر عن الجنس واللون والدين والعرق والعقيدة، وأيا ما كان يميز إنسانا عن إنسان آخر. لقد حاول العالم أن يقيم دورات من خلال الأمم المتحدة لها علاقة بأمور صيانة الأرض، أو حقوق الإنسان، أو الحد من التسلح النووي، أو تحقيق العدالة الاجتماعية، أو القضاء على الفقر، والأوبئة، ولكن أيا من ذلك لم يعش طويلا، أما الألعاب الأولمبية فقد ظلت على حالها تعقد بين حواضر العالم المختلفة بين القارات للقرن الثاني على التوالي.

وربما كانت دورة روما الأولمبية عام 1960، على قدر ما تسمح الذاكرة، هي التي شدت انتباهي إلى ذلك التجمع الكوني الذي يأتي إليه الرياضيون من كل حدب وصوب معبرين عن حضارات وثقافات مختلفة ومتنوعة، وأيامها هالني أن مصر لم تحصل سوى على ميدالية برونزية في الملاكمة وضعت أول بذرة من الشك لدي في إنجازات النظام الناصري العظمى؛ فلو كان لدينا كل هذا الحجم من الإنجازات التي يقول بها الزعيم الخالد فلماذا لا يوجد لدينا من «يحصد» الميداليات الذهبية والفضية كما يحدث في دول أخرى؟ لم أكن أعرف ساعتها أن خيبة الأمل سوف تكون أكبر كثيرا فيما سوف يلي من دورات، حيث لم تحصل مصر على ميدالية أخرى حتى أولمبياد لوس أنجليس عام 1984 عندما حصلت على ميدالية فضية في لعبة الجودو غير المعروفة شعبيا في التاريخ المصري. بعدها صامت مصر عن الميداليات دورة بعد أخرى حتى جاءت دورة أثينا الأولمبية في عام 2004 لكي تحصل على 5 ميداليات مرة واحدة ومن بينها واحدة ذهبية، ولكن يبدو أن الأمر كان محض مصادفة، فما أن جاءت دورة بكين 2008 حتى عادت مصر إلى عادتها القديمة فحصلت على ميدالية برونزية يتيمة كما كان العهد قبل ما يقرب من 5 عقود.

حاولت دائما تعويض خيبة الأمل المصرية بالتطلع والفخر بالإنجازات العربية التي ظهرت في دول المغرب العربي، والخليج أيضا، عندما بدأ بعض العرب رجالا ونساء في الحصول على ميداليات ذهبية في سباقات العدو، ولكن ذلك لم يشف الغليل، لأن ما كنا نحصل عليه لم يكن يتناسب مع العدد العربي؛ وربما أيضا لأنني نضجت وأصبحت لدي أسباب أخرى لخيبة الأمل التي باتت مستحكمة في الحكم على الحالة الرياضية المصرية والعربية.

كانت الحالة من التراجع أو الندرة في الامتياز العربي في الرياضة لا تختلف كثيرا عن ذات التراجع في كل ما له صله بالأمور ذات الصلة العالمية والإنسانية، وعندما ظهر تقرير التنمية البشرية العربية عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية في مطلع القرن الحالي وجرى تعداد «العجز» الديمقراطي العربي، والمساواة بين الرجل والمرأة، وحقوق الإنسان بشكل عام، وحتى نوعية الحياة لم يعد هناك سبب كبير للعجب من إنجازاتنا الرياضية الشحيحة. صحيح أن دولا عربية أصبحت أكثر غنى، وربما سجلت أرقاما أفضل في التعليم والصحة ونوعية الحياة، ولكن «العجز» بقي قائما في المجالات الكونية التي يتساوى فيها بنو الإنسان في الفرص التي تتيح للأسرع والأعلى والأرقى أن يتصدر الساحة دون تمييز.

المعضلة ربما كان جزءا منها عدم الإيمان بأنه يمكننا تصدر الساحة العالمية في لحظة ما؛ رغم أننا نقسم كل صباح على أن الحضارة العربية الإسلامية حكمت العالم على الأقل لمدة أربعة قرون جعلتها تتحدث عن دور في الحضارة العالمية المعاصرة، ولكن بعد ذلك لم يضف إلا القليل؛ وربما لخص الموضوع كله لاعب الإسكواش المصري أحمد براده الذي حصل يوما على المركز الثاني في لعبته على مستوى العالم حينما سأله سائل متى يحصل على المركز الأول، فكانت الإجابة عندما أؤمن في داخلي بأنني الأول، لم يحصل الرجل على هذا المركز أبدا، وبدلا من ذلك فيما أظن دخل عالم السينما، ولكن نصيبه في الإسكواش كان أفضل كثيرا.

هل تكونت لدينا هذه الشحنة الداخلية من الطموح والرغبة في أن نقدم أمرا ساميا للإنسانية كلها سواء في المجال الأولمبي أو غيره؟ ارتعشت قلوبنا للحظة عندما حانت لحظة «الربيع العربي»، وقادتها وجوه عربية شابة صبوحة تنادي بالحرية، وهي لغة عالمية، والكرامة، وهي لغة عالمية أيضا، والعدالة الاجتماعية، وهو هدف بحثت عنه الإنسانية كلها. لفترة قصيرة بدا كما لو كان العرب في دول الربيع قد عبروا فجأة إلى القرن الواحد والعشرين، ولم يكن ذلك بسبب استخدامهم لـ«الفيس بوك»، وإنما لأنهم تبنوا ومارسوا قيما إنسانية رفيعة، لم يمض وقت طويل على أي حال، ومن «أطفيح» وحتى «دهشور» ظهر أن الحقد والكراهية والتمييز له جذور أكبر مما كان متصورا، وبعد عام ونصف من الثورة في مصر فإن الصراع بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين يجعلك تتساءل دوما أين اختفى شباب الثورة وأين ذهب «الورد الذي فتح في جناين مصر»؟ في تونس الخضراء وصل الأمر إلى أن السلفيين هجموا على مواطنيهم في الجنوب فارضين طريقة حياة لم تألفها الدولة، ورغم الديمقراطية التي جاءت فقد ذهب معها الأمن والأمان، وجاء الأمر دمويا في ليبيا واليمن، أما في سوريا فلم تكن المعضلة واقعة بين النظام الشرس والديكتاتوري، وهو من الأمور الطبيعية، ولكن فيما جرى في صفوف الثورة من تمييز وتقسيم منذر ويبعث الخوف والهلع في القلوب.

هل ابتعدنا كثيرا عن دورة لندن الأولمبية؛ لا أظن أن ذلك صحيح، لأن جوهر الموضوع كله هو أن التواجد في الحضرة الأولمبية لم يكن لمراقبة المنافسة الرياضية فقط، وإنما، وهو الأهم، المنافسة الحضارية التي هي شبكة واسعة من العلاقات والملامح والسمات والأخلاقيات والقيم والعادات والتقاليد. لاحظ هنا كلا من حفل الافتتاح الذي تم في بكين عام 2008 وفي لندن هذا العام، كلاهما، مع ما سبقهما من حفلات افتتاح في حواضر أخرى، كان يمثل كل ما هو إنساني، وسواء كان الأمر هو «عش الطائر» الأسطوري، أو المشاهد من الحياة البريطانية، فما كان إلا اقترابا، واحتضانا في نفس الوقت لقيم إنسانية عامة تشمل الكرة الأرضية كلها، ولكن ما جمع الجميع ليس التعبيرات المختلفة عن ذات الحقيقة، وإنما ذلك التنظيم الرائع الذي يجري ليس بالدقيقة أو الثانية وإنما بجزء من هذه الأخيرة قال عنه مراقبون «فيمتوثانية» ربما على سبيل المبالغة، ولكنه عالم آخر لم نعرفه بعد.