التفريط بسيناء.. مرة أخرى!

TT

مضت الآن بضعة أيام على استهداف مجموعة مسلحة (قيل في ما بعد إنها تنتمي لتنظيم التكفير والهجرة) معبر رفح الحدودي، من دون أن تعلن الجهات الأمنية في مصر عن أية معلومات واضحة عن الجهة التي قامت بتلك العملية في حينها، أو الأهداف التي تقف خلفها.

قد يقول البعض إن الوقت ما زال مبكرا للإعلان عن نتائج التحقيق، ولكن في المقابل لدينا تصريحات إسرائيلية منشورة قبل أيام من العملية مفادها أن هناك هجوما وشيكا سيقع في سيناء، حتى إن السلطات الإسرائيلية حذرت مواطنيها - علنا - من السفر إلى سيناء، بل طلبت ممن هم في سيناء المغادرة فورا.

ووفقا لجريدة «هآرتس» فإن جهاز الأمن الداخلي (الشين بيت) كان قد أبلغ وزارة الدفاع الإسرائيلية مسبقا بقرب وقوع عملية إرهابية على الحدود المصرية. إذا كانت إسرائيل على علم بالحادثة قبل وقوعها، فلماذا لم تنتبه المخابرات العامة والعسكرية في مصر إلى هذا التحذير؟

بحسب تقارير صحافية، فإن الهجوم الذي قتل فيه أكثر من 15 ضابطا، وقع ساعة الإفطار في رمضان، وتمت مساندة المهاجمين بمدافع الهاون، و«آر.بي.جي» المضادة للدبابات التي تم إطلاقها من غزة الواقعة تحت سيطرة حركة حماس، وانهم استطاعوا الاستيلاء على مدرعة والتوجه بها صوب الحدود الإسرائيلية.

إذا صحت هذه الروايات فنحن إزاء عجز استخباراتي وحكومي. صحيح أن الخروقات الأمنية في سيناء قد نشطت منذ عام 2007 بعد استيلاء حماس على المعابر، وازدهار تجارة الأنفاق سيئة السمعة، ولكن أن تتعرض قوات حرس الحدود لهجوم نوعي كهذا يعكس أن هناك ثغرات أمنية خطيرة في سيناء، بحيث أصبحت الحكومة المركزية عاجزة عن ضبط الانفلات الأمني، وهو ما قد يعرض سيناء للتدخلات الخارجية.

قد يعدّ البعض هذا الأمر من قبيل المبالغة، ولكن الحقيقة أن سيناء بدأت تخرج تدريجيا عن سيطرة القاهرة، وإلا ما الذي يفسر تفجير مسلحين مجهولين لخط أنابيب الغاز في سيناء لأكثر من 15 مرة في أقل من عامين من دون أن تعلن السلطات القبض على أحد؟ في زيارته الأخيرة لمصر، وعد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، الرئيس المصري محمد مرسي بالتعاون في ضبط الحدود، ولكن العملية الأخيرة تعكس إما أن حماس غير جادة في احترام اتفاقية المعابر التي تحكم الحدود المصرية مع إسرائيل، وإما أنها غير قادرة على ضبط الأمن في داخل غزة، بحيث تحول القطاع إلى مأوى للجماعات المتطرفة أو أرض خصبة للنشاط الاستخباراتي الإقليمي.

إن من المثير للاستغراب أن البيان الرسمي الذي أصدرته جماعة الإخوان في القاهرة اتهم جهاز «الموساد» الإسرائيلي بالتورط في العملية، وأخلى طرف حماس من المسؤولية، بدعوى أن العملية تستهدف شق الصف، من دون أن يتم مطالبة حكومة حماس المقالة بفتح تحقيق حول قصف المعبر بالهاون من داخل القطاع! ثم إن البيان يتجاهل وجود جماعات دينية متطرفة ومسلحة ناشطة داخل القطاع منذ عدة أعوام. لقد اعترف مسؤولو حماس أكثر من مرة بوجود عناصر متطرفة، والحركة نفسها كانت قد اشتبكت مع جماعة التوحيد والجهاد أكثر من مرة، كان أعنفها عندما قضت على أول «إمارة إسلامية» في مدينة رفح جنوب القطاع، وقتلت أميرها عبد اللطيف موسى (أبو النور المقدسي)، و17 من رفاقه في «مسجد ابن تيمية» في أبريل (نيسان) 2009. أيضا كانت هناك حادثة مقتل الناشط الإيطالي فيتوريو أريغوني الذي خطفته جماعة جهادية العام الماضي بعد رفض حماس الإفراج عن معتقليها. وخلال الشهر الماضي اعتقلت حماس أبو حفص المقدسي، أمير جماعة «جيش الأمة»، بعد مصادرة أجهزة ومعدات وأسلحة تخص الجماعة الجهادية.

محاولة تعليق الحادثة على «الموساد» لا تخفي جوانب العجز والقصور التي يواجهها الإخوان في التعاطي مع حادثة معبر رفح، إذ يبدو أن الجماعة لم تخرج بعد من ثوب المعارضة. هناك تحدٍّ أمني حقيقي، والتعاطي معه يجب أن يرتقي إلى مستوى المسؤولية لأن من شأن تراجع الأمن في سيناء أن يفتح الباب - كما أشرنا - أمام التدخلات الأجنبية، إذ لن تقبل دول كثيرة أن تتعرض قناة السويس للتهديد من جماعات متطرفة، أو تتراجع قدرة مصر على ضبط الحدود على المعابر والمنافذ البحرية.

بوسع الإخوان تعلم الدرس من تجربة العكسر بعد 1956، ففي خطاب لغولدا مائير - وزيرة الخارجية آنذاك - أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قالت إن موقف إسرائيل من سيناء «يعتمد بشكل أساسي على حماية حقها في الوصول إلى المنافذ البحرية عبر قناة السويس، وخليج العقبة، ومضيق تيران»، وحذرت في الوقت ذاته من أن تحول سيناء إلى تهديد عسكري لا يتعلق بأمن إسرائيل فقط، بل يمس حق دول كثيرة قد تتضرر من إغلاق المضائق والمعابر البحرية (17 يناير «كانون الثاني» 1957). للأسف لم يقدر الرئيس عبد الناصر ذلك التهديد، فقد قاد الخطاب الشعاراتي المؤدلج إلى رفض المعاهدات الدولية، وتكرار التهديدات بإغلاق القناة في وجه البواخر الإسرائيلية، والدول المتحالفة معها، وفتح الباب أمام العمليات المسلحة للمجموعات الفلسطينية من داخل سيناء. في مايو (أيار) 1967، وبتحريض سوري من قادة البعث، قام عبد الناصر بالتعبئة العسكرية في سيناء بعد طرد قوات حفظ السلام الدولية، والتلويح بإغلاق خليج العقبة ومضيق تيران، وكرد فعل نفذت إسرائيل تهديداتها باحتلال سيناء بعد ذلك بأسابيع معدودة.

في الوقت الراهن هناك قوة دولية لحفظ السلام (MOF) مكلفة مراقبة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وفقا لبروتوكول 1981 الإضافي لمعاهدة 1979، وتتألف من قرابة 1656 مدنيا وعسكريا من أربع عشرة دولة. هذه القوات باتت تتعرض منذ 2006 للاستهداف من مسلحين مجهولين، ففي تقريرها المنشور في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، حذرت فيه من تنامي تهريب السلاح عبر أنفاق غزة، وبروز قوى مسلحة متطرفة تستهدف تقويض الأمن على الحدود، ولكن ـ للأسف - السلطات المصرية المشغولة منذ انتفاضة 25 يناير لا تزال غير قادرة على الالتفات إلى التدهور الأمني في سيناء.

هناك جماعات متطرفة في كل بلد، ولكن ما حدث ويحدث في سيناء في السنين الأخيرة لا يمكن أن يتم دون تدخل مخابرات وقوى أجنبية - ليس بالضرورة إسرائيل - تعمل على تحويل الحدود إلى أزمة مستمرة. حركة حماس التي لا تريد أن تقبل بالمعاهدات الدولية تجد نفسها في ورطة، فمن جهة تسبب استيلاؤها على معبر رفح في يونيو (حزيران) 2007، في توقف أعمال بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية. ومن جهة أخرى فإن حماس لا تستطيع وقف النشاط المسلح لبعض الفصائل الفلسطينية، مثل «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي والمدعومة من إيران، أي أنها لا تقدر على منع تلك النشاطات المسلحة لأنها كانت تمارس ذات الشيء قبل فوزها في انتخابات 2005.

برأيي، إنه ينبغي على قادة حزب الحرية والعدالة - الجناح السياسي لجماعة الإخوان - أن يجنبوا مصر سيناريو 1967، إذ إن سياسة الإمساك بالعصا من المنتصف هي مقامرة باهظة التكاليف. إن استمرار الإخوان على خطابهم المتشدد ضد اتفاقية السلام مع إسرائيل، ومحاولة تقديم ضمانات لأميركا والدول الغربية في ما يخص هذا الأمر خفية، قد يعرض المصالح القومية لمصر للخطر. لقد تعهد الرئيس محمد مرسي في مقابلة سابقة مع قناة الـ«سي إن إن» قبيل فوزه بالانتخابات بأنه سيحترم اتفاقية السلام مع إسرائيل، ولكن هذا التطمين يتعرض حاليا لاختبار حساس.

هل تتعاون الحكومة المصرية وحركة حماس للحيلولة دون انزلاق سيناء إلى ساحة اضطراب أمنية؟ نحن لا نستطيع الجزم حتى الآن، ولكن من المؤكد أن الطرفين مطالبان بمراجعة أدبياتهم المتشددة، وخطابهم السياسي المعارض، لكي يتمكنوا من تحقيق المصالح الحيوية لمواطنيهم. إذا أردت أن تحترم سلطاتك، وأن تدير حكومة يثق بها المجتمع الدولي، فعليك أن تتخلى عن رداء الماضي، وتعمل بجدية على الاهتمام بالمصالح الوطنية لا الشعارات الخطابية عن «المقاومة»، وشماعة القضية الفلسطينية. مصر بحاجة إلى أن تتذكر التجربة الباكستانية التي ضعف فيها دور الحكومة المركزية نظرا لخروج منطقة القبائل على الحدود مع أفغانستان عن سيطرتها، مما سهل للأميركيين التدخل في الشأن الباكستاني، بل وتنفيذ عمليات عسكرية من دون إذن من أحد.

حينما يتقلص نفوذ الدولة الرسمية وهيبتها فإن الأطراف ستخرج عن طاعة الحكومة المركزية، ولهذا فإن أمن سيناء ضروري لعدم التفريط بسيادة الدولة أو أي شبر منها لصالح التدخل الأجنبي.