لماذا لم يتم إعمار سيناء بعد تحريرها

TT

أقيل مدير المخابرات العامة، كما أقيل محافظ العريش، وإقالة الأول من منصب بهذه الخطورة يتطلب عند صانع القرار أسبابا لعل أكثرها وجاهة هو عجزه عن القيام بمهام منصبه. الواقع أن السبب الواضح أمامنا هو تصريحه الشهير بأنه كان بالفعل على علم بالتحذيرات التي أعلنتها إسرائيل من عملية إرهابية وشيكة داخل سيناء، والتي طلبت فيها من كل مواطنيها مغادرة سيناء فورا، غير أنه أضاف أنه لم «يتصور» حدوث الهجوم الإرهابي على الموقع المصري وقتل كل أفراده تقريبا، ولذلك استبعد أن يقوم مسلمون مصريون بقتل مسلمين مصريين في شهر رمضان الفضيل. أما محافظ شمال سيناء فقد صرح في حينها تعليقا على هذه التحذيرات، بأن الهدف منها هو ضرب السياحة الإسرائيلية في سيناء لحساب السياحة في ميناء إيلات. أي أنه لم يصدق هذه التحذيرات أو بمعنى أدق لم «يتصور» أنها صادقة، وفي كلا الحالين نرى أن العجز عن التصور كان السبب في إقالتهما من منصبيهما. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث التي يعاقب فيها شاغلو المناصب الرفيعة بسبب العجز عن التصور أو إن شئت انعدام الخيال السياسي.

الواقع أن الاثنين لا يمثلان استثناء في مصر وعجزهما عن التصور هو نتاج طبيعي لواقع ثقافي عام، واقع قوي ومتصلب وفاسد أيضا إلى الدرجة التي لا يصلح فيها كقاعدة لخيال ضروري للوصول إلى الحقيقة. القدرة على التصور أو الخيال السياسي أو الإبداعي نابعة بالحتم من الإلمام بدقائق الواقع، أنت فاقد للخيال عندما تكون عاجزا عن الإحاطة بجزئيات الواقع. ولذلك ستجد أن أكثر الناس خيالا هم أكثرهم واقعية، ولعل الرئيس السادات خير مثال لذلك. كانت مبادرته ضربا من الخيال ولكن خياله تحول في نهاية الأمر إلى واقع مجسد على الأرض هو تحرير سيناء. لقد انطلق من الواقع وعبر الخيال تمكن من الوصول إلى واقع جديد.

إنني أرى بكل وضوح أن الشخصين المقالين، كانا يعبران بصدق عن الوعي العام في مصر ودرجة ثقافته، فالثقافة السائدة التي صنعها النظام السابق (هل هو سابق حقا؟) مبنية على الخوف من إسرائيل، وهو الخوف الذي أنتج كراهية تولى النظام السابق والحالي أيضا مواصلة إمدادها باحتياجاتها اليومية، هكذا اختفت إسرائيل الدولة وحل محلها كيان يقوده أوغاد، والأوغاد كما تعرف يكذبون، فلماذا نصدق تحذيراتهم؟

لذلك ستستمع لتحليلات كثيرة تتهم إسرائيل بأنها - بطريقة ما - هي التي قتلت جنودنا على الحدود.. لماذا؟ تسأل لماذا؟ لأنهم أوغاد مجرمون.

هذه الفكرة بالتحديد التي تلخص الثقافة السائدة بالإضافة بالطبع لعناصر أخرى سياسية هي المسؤولة عن عدم تنمية وإعمار سيناء حتى الآن. وأنا أزعم أنه في غياب علاقات سلام حقيقية طبيعية بين مصر وإسرائيل، لن تحدث تنمية لمنطقة سيناء. ولن يمضي وقت طويل قبل أن نكتشف أنه من المستحيل أن نستمتع بلبن البقرة وأن نأكل لحمها في الوقت ذاته.

قبل تحرير سيناء بدأت أفكار جديدة في الظهور، ومنها: لو أننا كنا قد قمنا بإعمار سيناء، لكان من المستحيل أن تستولي إسرائيل عليها بهذه السهولة، وبعد عقد اتفاقية السلام وتحريرها بدأت أفكار جديدة مضادة في الظهور.. من الخطأ إعمار سيناء، ففي نهاية الأمر ستستولي عليها إسرائيل، ويبدوا أن النصر كان حليف أصحاب هذه النظرية التي انتهت بتحول سيناء إلى مرتع خصب للقتلة الذين يتسترون بالدين. ولكن لماذا؟ لماذا لم يشعر المصريون بفائدة السلام وضرورته وهو الشرط اللازم لإعمار سيناء؟ لماذا لم تحدث حرب 1973 ذلك القدر من الإشباع اللازم للاستمتاع بالسلام؟

أفكر في أن الإجابة على هذا السؤال وغيره، تتعلق بمفهوم الحرب والسلام في مصر والمنطقة بوجه عام، نحن دولة عميقة كما يقولون هذه الأيام، وأعمق ما فيها المفاهيم القديمة العاجزة عن مواجهة واقع جديد، أعتقد أن فكرة الحرب عندنا مستمدة من العصور الوسطى وما قبلها، أي أنها مرتبطة بإزالة العدو وليس الانتصار عليه، أنت تنتصر في حالة واحدة هي أن يختفي عدوك من على وجه الأرض، هذا هو السلام الوحيد الذي يمكن الوصول إليه، وبغير اختفاء العدو لا يوجد سلام ولا يحزنون. ولعل خير من عبر عن ذلك هو السيد أحمدي نجاد الذي يعلن كثيرا عن (أمنيته) في زوال إسرائيل ، هو لا يفكر في الحرب معها، بل في إزالتها. أما مفهوم الحرب الذي ظهر في بداية عصر النهضة وهو المفهوم الذي يعتنقه كل سكان الأرض الآن، فهو أن الحرب هي «تدمير قوات العدو ومعداته من أجل فرض شروط السلام عليه».

هذا هو السبب أن أعدادا كبيرة من النخبة بعد اتفاقية السلام وتحرير سيناء، لم تر في ذلك سلاما أو تحريرا، بل إن ما حدث هو مجرد الحصول على أرض فاقدة السيادة بدليل أنه ليس مسموحا لنا بإدخال ما نريده من القوات فيها، والآن بعد أن تخلى الجميع عن فكرة إلغاء اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، ارتفعت الأصوات تقول: كيف سنتمكن من محاربة الإرهاب في سيناء بغير تعديلات في اتفاقيات السلام تتيح لنا استخدام الطائرات والصواريخ والمدرعات و.. و.. إلخ.

فيرد مسؤول إسرائيلي بجملة واحدة: سيناء تحت السيادة المصرية.. وتستطيع أن تفعل فيها ما تشاء.

وهو موقف طبيعي وبديهي، لا توجد على الأرض اتفاقيات سلام تمنع الدولة - أي دولة - من الدفاع عن نفسها، ولكنك ستكتشف أنه لا أحد قد استمع إلى هذا التصريح أو عرف بوجوده، والسبب في ذلك أن هذا الموقف من إسرائيل يمنعنا من إضاعة الوقت في المطالبة بتعديلات في الملاحق الأمنية.

لقد أضاع النظام الجديد القديم فرصة ذهبية في أن تكون ضربته الأولى دراسة أوضاع المصريين سكان أهل سيناء، بهدف أن يحصلوا في أسرع وقت ممكن على كل حقوقهم كمصريين، لو أنه فعل ذلك لأصاب الإرهاب وأصحابه بقدر كبير من اليأس والتعاسة، على الأقل كان سيشعر هذه الجماعات من القتلة، أن أرض سيناء لها أصحاب وملاك وهم على استعداد لمحاربتهم دفاعا عن أرضهم. كما أضاع فرصة ذهبية أخرى وهي أنه لم يصرح بأنه ملتزم باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، مكتفيا بطريقتنا الشهيرة في تمييع الأمور وهي أننا ملتزمون باتفاقياتنا مع العالم. الواقع أن إسرائيل كما أرى من بعيد تكتفي مع مصر في هذه المرحلة من التاريخ أن تكون اتفاقية السلام معها مجرد اتفاقية لمنع إطلاق النار. وإلى أن تظهر حكومة جديدة تؤمن بالسلام بمعناه المعاصر، فهي ستكتفي بأضيق مساحة تتحرك فوقها وهي تلك المساحة التي يجيد العسكريون من الطرفين التحرك عليها.

هكذا تكون الإجابة على السؤال المطروح هي: لم يحدث إعمار أو تنمية لسيناء لأننا لم نعترف بالسلام بعد.. ولن يحدث إعمار أو تنمية لها لأنه ليس في الأفق ما يشير إلى أننا سنعترف به، بدليل أن وزير الإعلام حول بعض موظفيه إلى التحقيق بعد ظهور صحافي إسرائيلي على شاشته. هكذا يكون قد أرسل رسالة إلى العالم كله يقول فيها إنه أقل فهما للسياسة من النظام القديم الذي سمح لنفس المذيعين من قبل بالسفر إلى إسرائيل وعمل لقاءات مع المسؤولين هناك.