منمنمات دمشقية!

TT

يوما بعد يوم، تتشكل لوحة الثورة السورية وتتفاغر تفاصيلها ومنمنماتها، ولكن ثمة خطوطا نشازا، وبقعا لا تزال مظلمة ينبغي تسليط الضوء عليها ومعالجتها كي يتعافى المشهد ويغدو أكثر وضوحا وتكاملا.

أولا: التهويل والتعويل على معركة حلب وانجرار أطراف من المعارضة نحو دعاية النظام، وتوصيفه لها بأم المعارك أو الحدث الحاسم، أو المنعطف التاريخي، وغير ذلك، وإذا كان هدف النظام في المبالغة باعتبار معركة حلب تقرر مصير سوريا، هو تسويغ استخدام كل أنواع الأسلحة وأكثرها فتكا ضد هذه المدينة المحاصرة، وتاليا تعزيز الروح المعنوية لأنصاره وإيهامهم بأن ساعة الخلاص قد اقتربت وعليهم بذل كل الجهود من أجل الحسم والانتصار، فضلا عن إبعاد الأضواء عن شدة العنف والتنكيل الذي تتعرض له الأحياء الشامية، فكان يفترض بالمعارضة أن لا تقع في الفخ وتنساق وراء دعايات النظام وتختصر الثورة السورية في معركة واحدة، على أهمية ما يجري في حلب وتأثيره النوعي، والقصد إعادة الاعتبار للرؤية الموضوعية للثورة السورية بصفتها ثورة عمومية وشاملة، وبأن كل معركة تحصل في أي مدينة أو منطقة هي جزء لا يتجزأ من المسار العام، وما كان لحلب أن تصل إلى ما وصلت إليه وتحظى بهذه الأهمية لولا استمرار الصمود والتضحيات في حمص وحماه ودرعا ودير الزور ودمشق!

ثانيا: عودة فكرة تقسيم سوريا إلى الواجهة ليس فقط بسبب الوقائع المؤلمة التي بدأت تترسخ بإصرار النظام على التعبئة والتجييش الطائفيين، أو بسبب طابع الأماكن المختارة التي تعرضت للقصف العشوائي الشديد وللمجازر في حمص وحماه وما تبعها من تهجير، وفسرها الكثيرون بأنها محاولة لخلق خط متجانس يرسم حدود التقسيم وخطوط التماس المفترضة، أو لأن الكتلة الكردية المعارضة فرضت وجودها السياسي والعسكري المستقل في مناطق وجود الأكراد، وإنما أيضا لتنامي ميول محلية وخارجية تدعم هذا الخيار في حال عجز النظام عن الحسم في المناطق الساخنة، فمن جهة يشكل الاحتفاظ بشريط ساحلي منسجم اجتماعيا خيارا أقل سوءا لبقايا النظام، ويوفر لهم ملاذا يسهل الدفاع عنه كما ورقة مهمة للتفاوض، ومن جهة ثانية هو خيار أخير للمصالح الروسية والإيرانية، وكلاهما لا يريد التفريط، أيا تكن النتائج والآثار، بالموقع السوري من مقومات نفوذه المشرقي، ولو تقلص إلى منطقة ساحلية، مع ما يتطلب ذلك من توظيف جهود وإمكانيات خاصة لمدها بأسباب الحياة، الأمر الذي سيعقد مسار الثورة ويضعها أمام خيارات مؤلمة يفترض التعاطي معها بأرفع القيم الوطنية.

ثالثا: تنامي حركة الانشقاقات في صفوف النظام التي لم تعد تقتصر على أفراد كانوا على الهامش أو في دوائر بعيدة، بل شملت شخصيات عاشت جل تاريخها كجزء من تركيبة النظام، وهو أمر إذ يكشف عمق الأزمة التي تعاني منها النخبة الحاكمة ويدل على تراجع ملموس في قدرتها على استمالة أنصارها ونيل ثقتهم، فهو يكشف مدى الإصرار على الحل الأمني والعنفي، بدليل تزايد أعداد رجال الدولة الذين صاروا يأنفون تحمل وزر النتائج المأساوية التي تخلفها آلة القمع والتنكيل، لكن للآسف لا يزال ينظر إلى هذه الانشقاقات من القناة الطائفية ربطا بطابع ونوعية المنشقين وخلفياتهم الدينية، وهو أمر يضعف بلا شك مردودها ودورها في تفكيك النواة السياسية والأمنية المقررة، وبهذا الصدد ينبغي عدم التسرع في تقويم هذه الانشقاقات ووضعها تحت سيف المحاسبة عن ماضيها، فالأهم هو تفهم خيارها الجديد وتوظيفه لتشجيع الآخرين من مختلف الطوائف على رفض سياسة العنف وإعلان انحيازهم للثورة وعملية التغيير.

رابعا: تبدو غالبية السوريين متحمسة للتغيير وتقف مع الثورة وتريد التخلص من الاستبداد أيا تكن الآلام، وتحاول التكيف مع الصعوبات وشح الموارد في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، حيث يتقصد النظام ترك هذه المناطق بلا كهرباء ولا ماء، ويحرمها من أبسط الحاجات الحيوية للعيش، الأمر الذي يضع على عاتق الإدارة المؤقتة لهذه المناطق مسؤوليات مضاعفة، في خلق نمط من التعاون والتعايش الصحي والتوزيع العادل للاحتياجات المعيشية، والأهم الحد الحازم من التجاوزات والخروقات التي يمكن أن تنشأ في ظل غياب دور الدولة، والغرض إظهار صورة إيجابية لثورة تنسجم مع شعارات الحرية والكرامة التي تتبناها، وقطع الطريق على المتصيدين في المياه العكرة، والمشككين بقدرة الحراك الثوري على إدارة البلاد وتنظيم حياة الناس، الذين لا دور لهم سوى التهكم والامتعاض مثلا، من أكوام القمامة وهي تتراكم أحيانا في زوايا الشوارع.

خامسا: لا يغيب عن اللوحة واقع المعارضة السياسية وتخلفها المزمن عن اللحاق بإيقاع الحراك الشعبي وحاجاته، فما نشهده من استمرار تشتتها وتعدد المشاريع مؤخرا حول تشكيل حكومة انتقالية، ينعكس سلبا ويزيد من حجم الإرباكات والصعوبات التي تعانيها الثورة، ويعيد إحياء الأمراض الذاتية التي لا تزال تفتك بالفكر المعارض من حضور الحسابات الأنانية والمصالح الحزبية، ومن الادعاء بالحق التاريخي في الزعامة، ومن حضور فعاليات تدعي المعارضة، غالبا من دوافع وصولية أو انتهازية، تحاول ركوب موجة التغيير القائمة وتوظيف أشد العبارات المتطرفة والاتهامات كي تفرض نفسها في المشهد السياسي.

لا يطالب الشارع السوري بمعارضة موحدة ومنسجمة، والأمر الطبيعي هو تنوع الاجتهادات والرؤى والقوى، خاصة لمعارضة عانت الأمرين من ظلم النظام وتنكيله، لكن المطلوب هو توحيد خطابها وإيقاع ممارساتها حول هدف إزالة الاستبداد وأساسا لمد التحركات الشعبية بأسباب الدعم، فالثورة تحتاج للأفعال الملموسة أكثر مما تحتاج للهياكل القيادية، والنجاح في مواجهة الاستبداد يتطلب أيضا مواجهة مع الذات وأمراضها.