«حزن في ضوء الشمس»

TT

أقرأ، بكآبة وإعجاب، أعمال زكريا تامر. وشيئا من محمد الماغوط. وبدر شاكر السياب. جيل لم يكتب إلا عن الحزن والأحلام الميتة على أرصفة المدن. هذا فصل الصيف ولا أعرف لماذا أستعيد، بوعي كامل، الجيل الذي أبدع في اليأس. حنا مينا وإدوار الخراط وصنع الله إبراهيم. رجال أفاقوا على عصر مليء بالفقر والسجون. وبدأوا العمر حفاة على أرصفة المقاهي والأمل. وجلسوا ينقلون إلينا عذاباتهم في جمال وإبداع ولا مبالاة.

أسلوب متشابه في نثر زكريا تامر وشعر محمد الماغوط. تأوهات في وجه الملل والبطالة واستسلام للأسى. مناخ متشابه عند الصادق النيهوم في بنغازي وذبول السياب في بغداد. جيل يحاول برمته الإبحار إلى بلاد أخرى، لا يعرفها ولا تعرفه. يحاول التخفف من مسؤولية الوجود لأنه ولد ميتا، كما يقول زكريا تامر في «صهيل الحصان الأبيض». إنه الحصان الذي لا يقوى على القيام إليه لأنه تناول للتو حبوب الانتحار.

لكن هؤلاء السادة المعذبين انتهوا بأن أصبحوا أروع الروائيين والشعراء. حولوا غبار الحياة إلى بروج أدبية، على أبوابها وشرفاتها ياسمين وضوء قمر حزين وجميل.

«فامتلكتني خيبة مرة، وأحسست بأني من أشد المخلوقات بؤسا، ولم أستطع البكاء لأن عينيّ أمي كانتا تراقبانني بفضول، فقصدت المرحاض، وهناك أسندت خدي إلى جداره الخشن الوسخ، وانتحبت طويلا دون خجل ثم غسلت وجهي بماء بارد». هذه فقرة من شباب زكريا تامر في الخمسينات. وسوف نرى فقرة مشابهة عند إدوار الخراط الذي قال مرة إن جميع كتبه ليست سوى كتاب واحد من فصول عدة. وهو كتاب واحد أيضا في روايات حنا مينه وصنع الله إبراهيم وأسى متكرر في شعر السياب وتفجر غير متردد في شعر الماغوط، بلغ ذروته يوم أعلن «سوف أخون وطني»، قاصدا طبعا الوطن الذي كان، لا الذي يريده أن يكون.

خليل حاوي تخطى الجميع. فلما رأى «نهر الرماد» يفيض على الضفتين أمسك بندقية الصيد وأطلق النار على نفسه. لم يطق الحياة أمام مشهد دبابات شارون تطلق المدافع على أهله في المدينة، فأطلق النار على طائر الشعر الجميل، كان ذلك عصر الحدادين الذين صاروا ثروتنا الأدبية والشعرية المعاصرة. التزموا قضايا أمتهم وجيلهم ومدنهم التي غرقت في طمي الفقر والاضطهاد والطرق المسدودة. لم يقصف شارون بيروت المدة التي قصفها المناضلون. احتل ومضى وخجل من دخول القصر الجمهوري. المناضلون كانوا يدخلون القصر الجمهوري كأنهم يدخلون على زريبة. وظلوا يطاردون سليمان فرنجية حتى أبعدوه لاجئا في إحدى القرى. ولست أدري لماذا أقرأ الماغوط وتامر والسياب هذا الصيف. ثمة حزن أكبر في مدن العرب.