جوهر اللوثرية في إجراءات التقشف الألمانية

TT

إذا كان هناك شعب واحد ترى بقية دول العالم أنه يفهم بسرعة وبشكل كامل، فسيكون هو الشعب الألماني، اجمع ارتباطه العميق بالنازية ومعاداة السامية – يتلاشى 2000 عام من الاستحواذ والتاريخ المعقد.

منذ بداية أزمة اليورو، أتى هذا الاختزال، الذي يمكن إيجاده داخل ألمانيا بقدر ما يمكن إيجاده خارجها، في شكل تنقيب في الإرث المميت لحقبة فايمار، سنوات الوعود بالديمقراطية التي بدأت بهزيمتها، والعار الذي لحق بها في الحرب العالمية الأولى وانتهت بالسيطرة النازية على السلطة في عام 1933.

من جانب، حسبما يقال لنا، يفسر إرث التضخم المزعزع للاستقرار من عشرينات القرن الماضي معارضة ألمانيا القوية للسياسات النقدية والمالية التوسعية الحالية؛ ومن جانب آخر، يبدو أن البصمة التي تركتها النازية على سنوات ما بين الحروب تثبت للبعض أنه، حتى في عام 2012، لا يمكن الوثوق في نوايا ألمانيا الديمقراطية فيما يتعلق برفاهية أوروبا.

لكن بدلا من أن نزيل الوصمة عن حقبة فايمار، يجب أن نقرأ بشكل أكثر تعمقا عن تاريخ ألمانيا الثري الذي لا يضارع، وعلى وجه التحديد العلامة التي لا تمحى التي خلفها مارتن لوثر و«الحصن القوي» الذي بناه بنعرته البروتستانتية. وحتى اليوم، فإن ألمانيا، رغم تعدد الديانات فيها واتباعها السياسة العلمانية، تعرف نفسها ومهمتها من خلال كتابات وأفعال إصلاحي القرن السادس عشر، الذي ترك تعريفا مختصرا لمجتمع لوثري في أطروحته «حرية مسيحي»، التي لخصها في عبارتين: «المسيحي سيد حر للجميع، وليس خاضعا لأحد، والمسيحي هو خادم مطيع بشكل مثالي للجميع».

تأمل رؤية لوثر بشأن الإحسان والفقراء. لقد جعل رعاية الفقراء التزاما منظما مدنيا باقتراحه وضع صندوق عام في كل مدينة ألمانية؛ بدلا من الاكتفاء بالتقليد المتبع الممثل في التصدق على المحتاجين والفقراء المستحقين من أبناء الوطن، اقترح لوثر أن يتلقوا منحا أو قروضا من الصندوق. ويكون على كل متلق التعهد بسداد المبلغ المقترض بعد ازدهار وضعه المالي وعودته إلى وضع الاكتفاء الذاتي، ومن ثم، يتحمل المسؤولية عن جيرانه وعن نفسه. كان ذلك هو مبدأ حب الشخص لجاره من خلال المسؤولية المدنية المشتركة، والذي ما زال اللوثريون يطلقون عليه مبدأ «الإيمان الذي يولد الإحسان».

لم يتغير الأمر كثيرا خلال 500 عام. تعتقد المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الابنة المعمدة لقس لوثري من ألمانيا الشرقية، أن الفضائل والعلاجات الأخلاقية قديمة الأزل أفضل علاج لأزمة اليورو. وهي ليست لديها أي رغبة في فرض آيديولوجية علمانية، فما بالك بعقيدة دينية مؤسسية، على بلدها، لكن سياساتها تنبع بشكل واضح من مذهب بروتستانتي متقشف يعتمد على التضحية بالذات، ولكنه خير وعادل في الوقت نفسه.

إذا رفضت ميركل دعم ما يطلق عليه سندات اليورو، فلن يكون ذلك بسبب أنها أشبه بمنح أموال مجانا إلى الفقراء غير المستحقين، لكن لأن ذلك لن يساعد الفقراء الذين تحسنت أوضاعهم المالية في تحمل المسؤولية عن منازلهم وأن يصبحوا أقوياء بالقدر الذي يكفل لهم مساعدة جيرانهم المحتاجين. ويكون لدى من يتلقى مساعدات ويحقق انتعاشا اقتصاديا ويستفيد من مجتمع في فترة احتياج مسؤولية أخلاقية ممثلة في رد الجميل للمجتمع كمواطن قوي يمكنه المساعدة في ملء الصناديق العامة والتبرع لجيرانه المحتاجين الآن، الذين قد مدوا له يد العون من قبل. وهذا هو المجتمع اللوثري الذي يعلي قيمة التضحية.

وبسبب هذه الرؤية، تم الاستهزاء بميركل بوصفها بـ«ملكة التضخم» وبنعوت أخرى أسوأ. لكن هذا لم يثبط عزيمتها. فهي تعترف بأن التقشف هو أصعب الطرق لحل الأزمة، لكنها لا تلبث أن تضيف أنه أيضا أوثق الطرق وأسرعها لإنعاش الاقتصاد والتحرر التام من الأزمة. هل كان لوثر سيتفق مع هذا الرأي؟

بحسب استطلاعات الرأي، يتفق معه أيضا المواطنون الألمان في عهد ميركل. فهم يتمسكون بقوة باعتقادهم، النابع من التعاليم اللوثرية الصارمة، التي مفادها أن الحياة البشرية لا يمكن أن تزدهر في مدن عاجزة عن سداد ديونها ومناطق مسرفة. إنهم يدركون أن المال سلعة نادرة يجب إدارتها بشكل نظامي وتسجيلها وتأمينها قبل تقديمها لمقترضين ومتوسلين جدد.

إضافة إلى ذلك، فإنهم يجدون راحة في حقيقة أن، على عكس الدول التي يعتبرونها متحررة من الوهم ومبذرة مثل اليونان وإيطاليا، هؤلاء الذين يعيشون في مناطق ألمانية نموذجية قد التزموا بقوانين التقشف التي فرضتها المستشارة الألمانية وغيرها من البرامج الأخرى المصممة لتحقيق انتعاش مشترك وعادل.

غير أن تراثهم اللوثري الممثل في التضحية لأجل جيرانهم يجعل الألمان يختارون التقشف، كما يقودهم أيضا إلى المشاركة الاجتماعية. وفي التعاليم اللوثرية الكلاسيكية، لا تقوض توبة المؤمن «بالإيمان وحده» الحاجة إلى أعمال خيرية دائمة، مثلما يزعم النقاد غير المتبصرين. إن الإيمان يمكن المؤمن من القيام بعمل في العالم عن طريق القضاء على المخاوف في حياته الدينية الحالية والمستقبلية.

من الصحيح أن اللوثرية، كعقيدة، قد تراجعت في ألمانيا في العقود الأخيرة، إذ إن قوى التعددية الثقافية والعلمانية قد اجتاحت الدولة. شاهد الدفء الذي تعامل به الألمان من كل الخلفيات الثقافية مع رئيسهم الجديد، جواكيم غوك، القس اللوثري السابق.

وتعتبر اللوثرية هي القوة الاجتماعية الوحيدة الحية في ألمانيا اليوم. غير أنها تعتبر جزءا من الألفيتين التاريخيتين للدولة، والتي تزخر بقيم التضحية الفدائية بالذات ومد يد العون للآخرين. وفي القرن الرابع بعد الميلاد، سيطر المحاربون الألمان تقريبا على جميع النقاط العسكرية الكبرى في الجيش الروماني. ولاحقا، أحال الألمان براري شمال أوروبا الوسطى إلى سلة خبز ممتلئة عن آخرها – ومؤخرا، إلى ماكينة صناعية.

الأمر الأهم أن اللوثرية قد صمدت أمام كل من النازية اليمينية والشيوعية اليسارية، التي حاول كل منها أن يأتي بقيمه محل قيمها. وتأتي مرونتها عندما تقف في تحد مع التغيير. ومع التقدم المستمر للإسلام في أوروبا خلال العقدين الماضيين وفي مواجهة الضغط الاقتصادي المتواصل من جيرانها، فليس من المفاجئ أن الألمان من جميع الخلفيات قد وجدوا الآن مجددا «حصنا قويا» لأنفسهم في التراث.

* أستاذ في هارفارد ومؤلف «الأفعى والحمل: كراناتش ولوثر وصناعة الإصلاح»