اهتراء النسيج الاجتماعي العربي

TT

لا. ليس بهذه السرعة! لماذا تعرض التركيب البنيوي للمجتمع العربي، إلى هذا التفتيت. والتمزق. والتشرذم، بعد أربعين أو خمسين سنة فقط، من الاستقلال السياسي؟ لماذا تحول التزام المجتمع العربي بالانتساب إلى الوطن، والانتماء إلى الأمة الواحدة، إلى هذه التباينات الاجتماعية الحادة، والصراعات السياسية الدائمة، والانشقاقات الأقلوية العرقية. ثم أخيرا، إلى حروب أهلية. وطائفية؟

ما من راصد عربي كان يتوقع أن يحدث كل ذلك، في مجتمعات عربية بدت متعاطفة. فخورة بتحررها. شديدة الالتحام والتماسك في تركيبها البنيوي وسلامها المدني. بل عازمة على التكامل في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية واحدة، توفر الطاقات البشرية التي بُذلت. والمليارات التي أُنفقت.

حدث ما هو غير متوقع. قتل 50 ألف لبناني في حرب أهلية. قتل مليون عراقي في حربين عبثيتين، أولاهما مع الجيران. والثانية ضد الأشقاء. مات مليونا سوداني شمالي وجنوبي، في حرب عرقية. دينية، خلال ثلاثين سنة. مات أكثر من مائتي ألف جزائري في حرب مجنونة. وفَنِيَ ربع مليون يمني في حروب عشيرية. مذهبية. آيديولوجية.

وها هو نظام عائلي. طائفي. أقلوي، تسلط ثلاثين سنة من القتل. والاغتيال. والقهر، على مجتمع شقيق مجاور (لبنان). وتحالف مع دولة غير عربية (إيران)، في حرب لاهبة ضد مجتمع شقيق مجاور (العراق).

وأخيرا، هذا النظام يقتل شعبه. ويدمر مجتمعه. ويتهم 23 مليون سوري بالتآمر عليه! لمجرد أنهم طالبوه بحريتهم، وحقهم في أن يعيشوا بكرامة. وكبرياء، وأن يتعايشوا بمساواة بين غالبيتهم وأقلياتهم.

كنت، في الأربعينات والخمسينات، أذهب إلى من بقي حيا من ثوار الغوطة (الغابة) الذين دوّخوا أكبر جيش استعماري. في ثورة استمرت نحو ثلاثة أعوام في ريف دمشق. كان هؤلاء البسطاء يقولون لي إنهم لا يطلبون تكريما أو تعويضا. كل ما يريدون أن يعيش أبناؤهم وأحفادهم بهناء وسلام.

ها هم الأبناء والأحفاد يقاتلون اليوم دفاعا عن شرفهم. وطنيتهم. ويُقتلون في الأحياء والمدن والقرى، في كل أنحاء سوريا التي قاتل فيها آباؤهم وأجدادهم. كانت قوى الاستعمار لا تكاد تخضع حمص، لتثور حماه. دير الزور. درعا. وتتمرد حلب. وتتظاهر دمشق. اليوم، يغتال النظام درعا. فتثور حماه. ودوما. يذبح الشبيحة دوما، فتثور حلب، فيما الطائرات والدبابات تدمر أحياءها، حيا بعد حي، بمعرفة الضباط الروس.

تجاوز النظام حدود التعامل السلمي مع شعبه ومجتمعه. لا جليلي. لا صالحي. لا حسن حزب الله. لا خامنئي. لا بوتين. لا كوفي أنان. ولا حتى الأخضر الإبراهيمي، يستطيعون إكراه شعب جريح، على الحوار. أو التسوية والتعايش مع نظام قاتل حاقد، لا يعرف نبل المسؤولية. وكبرياء الدولة التي تعفّ عن التعذيب. التصفية، في الأقبية. والبيوت الآمنة. والإعدامات الميدانية.

أعود لأسأل: كيف. ولماذا حدث كل ذلك؟ من المسؤول؟ هل هو النظام. الدولة. المجتمع. المؤسسات. الأشخاص. الرؤساء. الجنرالات. الآيديولوجيا. الطائفية. القومية. الإسلاموية. الليبرالية؟ تستطيع أن تحمل كل هؤلاء المسؤولية عما جرى. ثم تمسح بالهامات والمقامات دموعك، كما تفعل «أصالة» الثائرة على ما جرى. على ما فعله النظام الجائر، ببلدها. ومجتمعها.

أكتب خواطر. وهوامش. لا أكتب بحثا أكاديميا. أكتب ما يجول في ذهن كل عربي غيور، ليس بحاقد. أو شامت، بما فعله ويفعله العربي بالعربي، من دون الاتهام التقليدي لإسرائيل، عندما تعوزنا الحاجة لتغطية أخطائنا. العرب ليسوا من السذاجة، لتصديق حماس غزة وإخوان الشيخ مرسي، في الادعاء بأن إسرائيل هي التي قتلت جنود مصر الصائمين. الصامدين على خط النار مع العدو.

«جمودية» النظام الاستقلالي العربي العاجز عن التطور، تتحمل المسؤولية الأكبر عن تفتيت المجتمع العربي. النظام في تحولاته الكلاسيكية. الآيديولوجية. العشيرية. الطائفية. الحزبية... ابتلع الدولة المفروض أن تكون حانية على مجتمعها. خادمة له. وحده النظام الخليجي لم يسيِّس ويحزِّب المؤسسة الأمنية/ العسكرية. الأدلجة سهلت على النظام الجمهوري التهام الدولة. وعطلت علاقة التواصل والتعاطف بين الدولة. والنظام. المجتمع.

انهيار المؤسسة التربوية/ التعليمية دمر ثقافة الوعي الاجتماعي، في مجتمع محافظ. المؤسسات الدينية التقليدية. الإخوانية. الجهادية، حالت دون تخطيط الأسرة. ودون ربط الزيادة السكانية بالإنتاج الوطني القادر على تمويل وتنشئة الأجيال الجديدة.

300 ألف مولود خليجي ليسوا عبئا على النظام والمجتمع، بحكم البحبوحة النفطية. لكن الكثافة السكانية العشوائية أطلقت العنان لاستيلاد مليون طفل كل تسعة أشهر في مصر. ونصف مليون طفل سنويا، في كل من المغرب. الجزائر. السودان. العراق. وثلث مليون طفل في سوريا. هؤلاء يبلغون سن العمل. فلا يجدونه.

النظام التعليمي/ التربوي، في البيت. المدرسة. الجامعة، ينتج موظفين. وأشباه متعلمين. باتت لدينا مجتمعات. لا تقرأ. لا تعرف. هناك زعماء وساسة عاجزون عن نطق الفصحى التي بسطتها الصحافة. ومذيعون لا يعرفون الفاعل من المفعول. الكلام باللهجات المحلية سوف يحيج الرئيس بوتفليقة، مثلا، إلى مترجم للتفاهم بعد خمسين سنة مع السوريين العاتب عليهم، لثورتهم على نظام بشار «العلماني».

لا بد من الاعتراف بأن المجتمع العربي مريض. الآيديولوجيا القومية المريضة وضعت الناصريين في مواجهة البعثيين. انتهى المشروع القومي البعثي بالعشيرية في العراق. وبالطائفية في سوريا! تقشفُ الناصرية الاشتراكية حدا بضباط الطبقة الوسطى الدمشقية إلى الغدر الانقلابي بالمشروع القومي الوحدوي (1961). الخطاب الشعبوي وضع الناصرية في مواجهة غير ضرورية مع الأنظمة الخليجية التي كانت متعاطفة مع «البطل» القومي، في صراعه مع إسرائيل والغرب.

الغزوات الاستعمارية الجديدة أدت إلى ازدهار العنف الديني. الجاهلية الانتحارية التي تكفر. تزندق. تقتل. تذبح مجتمعاتها، ساهمت بدورها، في الاستقطاب الاجتماعي (كافر/ مؤمن)، فيما كان عليها أن تحث النظام على مكافحة فساده.

هل كنت مخطئا عندما قلت، مع غيري مرارا وتكرارا، إن غزة المحررة لا يمكن أن تكون منصة انطلاق لتحرير الضفة، أو فلسطين من النهر إلى البحر. كان على «حماس» أن تحول غزة إلى لؤلؤة اقتصادية مزدهرة بالتمويل العربي. التنمية أيضا مقاومة. بدلا من ذلك حولت حماس غزة إلى مستودع لكل «الجهاديات» الحربية والتكفيرية. وإلى منصة انطلاق لصواريخ التنك الممولة إيرانيا. في خمس سنوات، قتلت الصواريخ ثلاثة إسرائيليين، وأتاحت لإسرائيل غزو غزة والفتك بأربعة آلاف فلسطيني.

هل أطلت؟ أعتذر للقارئ. فهذا الحديث اليوم مجرد خواطر. وهوامش، قد تبدو مبعثرة. شاردة، لكن بمجموعها ترسم صورة لمجتمع عربي مريض بنظامه. بآيديولوجياته. ما الحل؟ هل العرب أمة قابلة للتطور. وللحياة؟ أم نحن أمة تموت. تتدثر، بجمودها. بصراعاتها. بحروبها. ما الحل؟ آه! فهذا حديث آخر.