رسملة الإخوان: حملات التبرع السياسي!

TT

لا صوت يعلو على الاحتفالات الصاخبة بإنجاز حملة د. مرسي الرئيس المصري «المنتخب» التي وصفها ناشطون عرب وخليجيون وسعوديون بأنها «حملة تطهير» من بقايا النظام السابق؛ وهي بالمناسبة خطوة كانت متوقعة وإن إيقاعها السريع ولد من أحداث سيناء، فما يحدث في مصر بغض النظر عن مؤيديه ومعارضيه، اندفاع نحو دولة الحزب الواحد والنظام الشمولي لكن بشعارات دينية، تحاول إلباس عباءة الخليفة قسراً «لمرسي» ويبدو ذلك في الصورة السياسية التي يظهر بها عبر خطبه وعظاته واقتباساته في إشارة إلى أزمة المجتمعات الحديثة المدفوعة بالايديولوجيا والتي يحل فيها التاريخ محل الميثولوجيا طبقاً لعالم الاجتماعي الفرنسي ليفي شتراوس.

من حق الإخوان أن يفرحوا، بمنجزهم على الأرض ومن المتفهم - لا المبرر- في عالم السياسة أن يمارسوا الدوغمائية بالتنصل من كل وعود «التعددية والمشاركة» لباقي الأحزاب إلا في إطار شكلي؛ كما أنه من حق حلفاء الإخوان وهم حزمة واسعة الأطياف من متلبرلين ويسار قديم ومبغضي الأنظمة وحتى مناوئين لدول الاعتدال العربي أن يشاركوا الإخوان فرحتهم وهي حالة عارمة لا تخطئها العين في تويتر أو باقي منصّات الإعلام الجديد؛ لكن من المعيب جداً أن يتم ذلك بمغالطات سياسية تصل إلى حد «التزوير» للحقيقة وشطب التاريخ ومحاولة استنطاق «الجماعة» بما لم تتفوه به؛ بل وبما يخالف منطوقها وممارستها قبل الثورة وبعدها.

واحد من تلك المغالطات السياسية الفادحة، مقاربة للصديق الأستاذ جمال خاشقجي في قراءته للعلاقة بين الإخوان وإيران، في مقاله ذائع الصدى قبل أيام «إيران وجيرانها والإخوان»؛ الذي يتنبأ فيه بعملاقين متناطحين - يصفهما بالأصولية - في المرحلة المقبلة إيران والإخوان، وأن على دول الخليج الانحياز للإخوان بحكم التطابق طبعاً في حين أنه وآخرين من المغتبطين جذلاً والدّاعين بقوة إلى دعم الهلال الإخواني في مقابل الهلال الإيراني، كانوا - في مخاض الانتخابات - ينتقصون من يعتبرون ما يجري ابتلاع للسلطة من قبل الإخوان وليس مجرد سقوط للأنظمة السابقة بأياد كثيرة وبالتالي فقد كانوا يتحسسون من دمج الإخوان بالعدالة والحرية سياسياً لكنهم في غضون الحديث عن مرحلة ما بعد الاكتساح السياسي يتحدثون عن احتضان للإخوان وليس للرئيس المصري الذي نقض بيعته أو انسحب من الجماعة والحزب، وهو أمر محيّر قد لا يفسره التحليل السياسي وأدواته؛ قدر حاجته إلى تحليل نفسي لطبيعة المنظومات الإيديولوجية ومناصريها وأثرها على الذهنيات والتحولات الاجتماعية كمفهوم الخضوع التأديبي أمام الأب القوي وقد تساءل عنها فرويد في دراسته عن التماسك الاجتماعي ودراسة رايخ حول الحزب النازي وربما كان «قلق الحضارة» لفرويد ملهماً في قراءة السمات اللاشعورية الخاصة بذهنية الجماعة كالشعور بالذنب وهو ما تمارسه الجماهير أمام تلك الخطابات المغرقة في «أبويتها» والتي يقول مضمرها السياسي غير ما يعكسه ظاهرها «التقي»؛ فاستلهام مقولة «العهد الراشدي» بالفاظها من رئيس فاز بنسبة ضئيلة في الانتخابات ويواجه واقعاً شديد التعقيد والتنوع ومحاطاً بأسوار دولة «قطرية» وتحديات اقتصادية هائلة هو تكريس «للمخلص الفرد» وتذويب لدولة المؤسسات لصالح دولة «المرشد الناصح»، وفي ذات الوقت أن يأتي رئيس وزراء ويطالب الشعب بارتداء الفانيلات القطنية والبقاء في غرفة واحدة لتخفيض الكهرباء هو أقرب إلى ممارسة التقشف لكوادر الحزب في مخيمات الإعداد منه إلى خطاب جهة خدماتية.

عوداً لأطروحة الأستاذ جمال خاشقجي والتي تطورت بشكل تصاعدي منذ بداية الثورات، ومجملها يتلخص في ضرورة التفات دول الخليج إلى دول الثورات التي اكتسح الإخوان فيها، بالطبع جاءت ليبيا مخالفة للتوقعات، ودون شك فإن التسليم بصوابية هذا «التأطير» بالإخوانية للحالة السياسية المصرية والتونسية في سياق السياسة الخارجية عدا كونه تقولاً وقفزاً على مفهوم الدولة القطرية بمفهومها القومي الدولة المصرية التونسية وليست الإخوانية؛ فهو قراءة أكثر خطأ لواقع دول الاعتدال العربي وعلى رأسها دول الخليج بقيادة المملكة؛ التي ما فتئت مقالات «تيار الأخونة» يسمها بالضعف والاحتياج إلى حليف إخواني باعتبارها غير قادرة على الفعل ترتهن في قوتها على تحالف مع دول فاعلة طبعاً ويتم الزج بتركيا على اعتبار أنها أيضاً دولة «إسلاموية» بهذا المعنى التجميعي، وفي الحقيقة أن القراءة الخاطئة لا تخص دول الخليج؛ بل هي أيضاً تحمل دول «الإخوان» أكثر مما تحتمل والواقع يشهد بأنها تشهد ممانعة داخلية قوية، ورقابة دولية لوفائها باللعبة السياسية والديمقراطية، كما أن وضعها الاقتصادي وتحدياتها للنهوض والتي ستستغرق مع الاستقرار السياسي وقتاً طويلاً سنوات على الأقل لا يؤهلها لأن تلعب أدوارا إقليمية؛ ومن جهة ثالثة فإن تغويل إيران ووسمها بـ «الوحش» الذي سينقض على الخليج في حال عدم الاستقواء بـ «الهلال الإخواني» قراءة خاطئة للتحولات العميقة التي يعيشها النظام الإيراني داخلياً على مستوى التحديات الاقتصادية، وخارجياً إن في مسألة الأزمة النووية أو هشاشة الوضع السوري وانهيار حالة التحالف بينه وبين دول المقاومة.

لكن سؤال الأسئلة؛ هل بالفعل أن الإخوان يعادون إيران كدولة أصولية منافسة كما يصوره تيار «أخونة» الحالة السياسية ومنهم الأستاذ جمال الذي أغرقنا في المخيال السياسي بصراع العملاقيين الأصوليين؟

الجواب بالطبع لا، لا تاريخية ولا قبل الثورات، ولا بعدها، هذه اللاءات الثلاث يدركها من لديه إلمام بسيط بمنجز الإخواني الفكري، أو خاض تجربة الانتساب للجماعة أو حتى كان قريباً من قيادييها أو كوادرها الناشطة والنائمة وهم ملء السمع والبصر، وهذا لا غبار عليه وحق مشروع لكل فصيل سياسي.

لنبدأ بـ «لا» ما بعد الثورة، فالكل يعلم أن ثمة وفودا من قيادات الإخوان وحتى منظمات مجتمعية ذهبت لزيارة إيران تمهيداً لتحسين العلاقات ما بعد الثورة، وقيل حينها إنها زيارات ذات طابع فردي لا تمثل توجهاً سياسياً في نفي أشبه بالإدانة مع أن إقامة علاقة سياسية نديّة ومتكافئة مع أي دولة هو مشروع لا يحتاج لتبرير أو مراوغات لفظية، لا سيما مع وجود شخصيات تصرح بتوجهها الإيراني لعل من أبرزها المفكر الإخواني فهمي هويدي الذي وإن استقال ككادر من الإخوان إلا أنه الأكثر حضوراً على مستوى التنظير والنصح بضرورة أن يعي الإخوان المرحلة؛ بل وعاتب الرئيس مرسي في مقال مشهور لزيارته السعودية كأول دولة بعد تولي الرئاسة. فهمي هويدي قال ما قاله كمال الهلباوي من قبله لكنه كان الأكثر جرأة وصراحة حيث اعتبر أن تأخر الإخوان والرئاسة عن تحسين العلاقات مع إيران إنما هو بسبب عدم استقرار الجبهة الداخلية وهو الأمر كما يقول الذي (لا يشجع القيادة السياسية على فتح ملف السياسة الخارجية وتصويب ما يعتورها من عوج لا يستقيم استمراره فى ظل الثورة التى قامت دفاعا عن كرامة المواطنين وكرامة الوطن أيضا)، ويطالب فهمي هويدي في نفس المقال بضرورة الانعتاق من معسكر التبعية الذي جعل الرئيس المصري يعتذر عن عدم المشاركة فى قمة طهران، لأنه لا يستطيع في ظل المعادلات الراهنة، وإلى هنا فهو كلام إيراني الهوى إخواني القلب يمثل تياراً عريضاً داخل الجماعة. وبالمناسبة ووفق الاستخدام المبتذل لوصف «الأصولية» للإخوان، فهذا التيار الإخواني الهوى يعلم من يدرك الجماعة جيداً أنه لا يمثل الأصوليين منهم والذين هم في الغالب الأقرب للتيار السلفي أو ما يسميه الباحث الراحل حسام تمام المتخصص في أطروحة الإخوان بإخوان الريف، بل هم التيار المنفتح والمستقل وحتى المنتقد بشدة للجماعة وسلوكها المتردد تجاه إيران بما يخالف التاريخ.

فهمي هويدي يزيد على ذلك أنه اعتبر في مقاله بـ«الشروق» الصادر بالأمس أن (العلاقة مع إيران أحد معايير استقلال القرار السياسى المصرى، الأمر الذى يسوغ لنا أن نقول إن قرار مصر تطبيع العلاقات مع طهران، سيكون إعلانا عن انعتاقها من أسر التبعية وانتقالها إلى فضاء الاستقلال المنشود).

إذن ما سر هذا الاستدعاء الإخواني في ظل تضخيم التوجسات من إيران وفي ذات الوقت التذمر الدائم من الطائفية «السلفية» والتي لا تنصف الشيعة؟!

الواقع أن مرجع ذلك ومرده إلى حالة الالتباس الذي نعيشها منذ لحظة صعود الإسلام السياسي بين ما هو ديني وسياسي، وهنا لا علاقة بالليبرالية أو العلمانية بقدر أن استدعاء الطائفية بمفهومها الديني «التشيع / التسنن» في مواجهة «التشيع السياسي» هو جزء من حملة طويلة وممنهجة لما أسميه بـ «رسملة الإخوان» أي تحويل فوز الإخوان الساحق إلى رأس مال سياسي يتم التفاوض معه؛ بل وعلى طريقة المؤسسات الإسلاموية التقليدية يتم جمع التبرعات السياسية له بشكل صريح أو ضمني في إطار لعبة التحالفات التي هي في النهاية أقرب إلى السياسة الدولية منها إلى المشاكلة الدينية؛ فنحن نعلم أنه في حالة اليوم لا يمكن اعتبار التطابق الروسي السوري أو الصيني الإخواني جزءا من رسملة التشيع بقدر أنه تحالف مبني على اعتبارات جيوسياسية لا علاقة لها بهويّة الدولة؛ كما أن استدعاء البعد الطائفي لتبرير التحالف مع الإخوان هو خيانة أصلاً لمفهوم التعايش الطائفي الذي يجب أن لا يتجزأ؛ فالخلاف مع التشيع السياسي لا يعني الدخول في مستنقع الطائفية البغيض، وربما هذه التفاصيل الطائفية يمكن التدرب عليها جيداً في تأمل الحالة اللبنانية التي تحولت الطوائف فيها إلى «دوالّ» سياسية منزوعة البعد الديني.

إذا تجاوزنا نصائح فهمي هويدي المجانية المتناقضة جذرياً مع حملة التبرعات السياسية لتيار «الأخونة» الذي تجاوز حتى تيار «الأسلمة» الشامل لأطياف متنوعة من الإسلاميين، فإن اتكاء الأستاذ جمال خاشقجي على بغض إخوان سوريا لإيران هي مغالطة سياسية أخرى لا يمكن التعامل معها إلا على طريقة «فالمصيبة أعظمُ»، فكما نعلم أن هناك فروقات جوهرية بين الجماعة الأم وبين فروع الجماعة في العالم، هذه الفروقات هي في المواقف السياسية المرحلية أو المرتبطة بظروف داخلية وإقليمية وبين الاستراتيجيات العامة؛ فموقف إخوان سوريا المبغض لإيران يقابله موقف حماس الإخوانية التي قال خالد مشعل في تصريح له «شعب غزة… يقدّر على الدوام الدعم السياسي والروحي من القادة الإيرانيين والأمة الإيرانية، وهي شريكة في ذلك النصر»، هذا الموقف ما قبل الثورات قابله موقف آخر بعدها من راشد الغنوشي وحزب النهضة الذين قاموا بدعوة حزب الله إلى احتفالات الحزب في حين أن «سوريا» التي ينتقد إخوانها إيران يقصفون بقوات سورية مدعومة بشكل مباشر وميداني من عناصر من الحزب، بل قال راشد الغنوشي في مجلة (المعرفة) التي كانت تصدر عن حزب النهضة مقالاً بعنوان: الرسول ينتخب إيران للقيادة! جاء فيه:«إن إيران اليوم بقيادة آية الله خامنئي القائد العظيم والمسلم المقدام هي المنتدبة لحمل راية الإسلام».

ولولا خروج المقال عن مقصده لرصدت للأستاذ جمال عشرات الاقتباسات الموثقة من نصوص قيادات إخوانية تصرح فيها بمنزلة «الثورة الإيرانية» باعتبارها ملهمة، بل ودعمها في البرنامج النووي وأنه لا يحق لأحد من الجماعة أن يهاجمها لذلك كما صرح المرشد السابق التلمساني لمجلة كرسنت الكندية، وهي مقالات خضعت لظروف معقدة وغير مستقرة لتاريخ طويل من العلاقة بين الجماعة والإخوان خارج «مبارزة الوحشين» التي صورها لنا الأستاذ جمال.

أزمة الموقف الإخواني مع إيران ليس في بعدها الأصولي بل في دعمها للتشيع السياسي، وليس في تسامحها في الملف الطائفي الذي يقول به أيضاً عقلاء كثيرون في مختلف التيارات الإسلامية الأخرى ومنها السلفية؛ وبالطبع لا علاقة لليبراليين الذين يتم الزجّ بهم كأضحية ايديولوجية فهم مع مفهوم المواطنة؛ لكنهم ضد التشيع السياسي، هذا الموقف المأزوم عبر عنه محمود غزلان عضو مكتب الإرشاد في الجماعة بوضوح حين قال في مقاله نحن والشيعة:«موقفنا من إيران وما يصدر عنها فينبغي أن نفرِّق بين أمرين: (المواقف السياسية)، و(المذهب الشيعي): فالمواقف السياسية ينبغي أن نقيسها على قيم الحرية والحق والعدل، موقفنا من المذهب الشيعي فنحن نميل إلى عدم التعرض له بالقدح أو المدح»، وهو أمر يمكن التأكد منه في العودة إلى تاريخ علاقة الجماعة بالثورة أو حتى إن كان العود للتاريخ غير مبهج لأصحاب مقولة «نحن أولاد النهارده» فيمكن العودة إلى مقابلات يوسف ندا في قناة الجزيرة التي تحدث فيها باستفاضة عن الموقف من إيران سياسياً، وهو ما يؤكده حتى مفكرون خليجيون كانوا منتمين للإخوان كالنفيسي في كتابه «الحركة الإسلامية.. رؤية مستقبلية».

مرحلية المواقف كانت بادية في موقف إخوان الخليج من موقف الجماعة السلبي ووقوفها ضد التدخل الأجنبي، لكنه ليس موقفاً مبدئياً بدليل الهجمة الشرسة التي تلقاها الشيخ بن جبرين من أقلام إخوانية خليجية ومحلية في موقفه في حرب تموز وهو موقف كان منطلقاً من سجال طائفي عقائدي لكن جرّه الإخوان إلى المربع السياسي.

الإشكالية اليوم ليست في المأزق الطائفي في شكله العقائدي لأسباب كثيرة منها أن كمونه وفورانه مرتبط بالحالة السياسية وليس نتيجة انهاء وحسم المسألة تاريخياً بشكل خطابي على طريقة المناظرات البائسة لقناة «المستقلة»؛ فالذوبان في مفهوم المواطنة من شأنه رفع مستوى التعايش مع بقاء الهويّة المذهبية في إطار الدرس الديني، لكن عملقة التشيع السياسي وتضخيمه لتقديمه كمحارب لائق بالعملاق الإخواني الجديد هو رمي للزيت الطائفي في نار السياسة المتصلة بواقعنا بالمعاش وهو بالتالي دعوات متهورة لحروب أهلية واستقطابات طائفية على مستوى القرار السياسي.

ما يحتاجه الإخوان من «تيارات الأخونة» ليس حملة تبرعات سياسية، ولا رسملة لسلطتهم المتنامية؛ بل دعوة للتعقل ومحاولة التحول من حزب شمولي بشعارات دينية إلى مفهوم الدولة الحديثة بهويّة إسلامية معتدلة تعرف حدودها وأنفاقها ومفكريها وحتى إرهابييها جيداً بعيداً عن مخيال دولة الخلافة العقدة الأوديبية للإسلام السياسي.

[email protected]