فرصة «للدولة» في لبنان

TT

رغم أن السوابق السياسية المفوتة في لبنان لا تشجع على تغذية آمال اللبنانيين بعودة سلطة «الدولة» إلى موقع قرارها الرسمي في بيروت وبعبدا، فإنه من غير المقبول تفويت الفرصة الاستثنائية التي وفرها القضاء اللبناني في إعادة الهيبة إلى الدولة بعد ادعائه، الأسبوع الماضي، على أحد أكبر أركان النظام العسكري في سوريا بتهمة تأليف «عصابة مسلحة» (بمشاركة نائب ووزير لبناني سابق)، بقصد ارتكاب الجنايات على الناس والأموال والنيل من سلطة الدولة (اللبنانية بالمناسبة)، توصلا إلى إثارة الاقتتال الطائفي.

منذ عقود ولبنان الرسمي يتصرف كدولة مغيبة القرار، وفي بعض الحالات كدولة فاقدة لزمام المبادرة في اتخاذ أي قرار، داخليا كان أم خارجيا، مما يعطي شعار «النأي بالنفس»، الذي تنتهجه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي حيال سوريا طابعا إحباطيا. وإذا كان هذا الشعار يعكس الرغبة في تجنيب النسيج الاجتماعي في لبنان الخلل أو الانهيار، فذلك لا يبرر الاستمرار في توظيف ولاءات المجتمع اللبناني المتنافرة إلى حد التصادم في شل القرار الرسمي إلى أبد الآبدين.

إذا كان من الصعب على اللبنانيين الإجماع على أساسيات تشكل مفهوم «الوطن»، وإذا كان من المتعذر، حتى الآن، التوصل إلى اتفاق وطني على سياسة داخلية أو خارجية واضحة المعالم والأهداف، طالما أن ولاءاتهم المذهبية تتقدم على ولائهم للوطن الواحد، فإن الاستمرار في هذا النهج من شأنه أن يفاقم ضعف الدولة وتآكل سلطتها، وقد يؤدي إلى إلغاء وجودها الرسمي (كما هو الحال فعلا في بعض المناطق اللبنانية).

ولأنه لا «وطن» يرجى في لبنان قبل قيام «الدولة» القوية والقادرة، تأخذ اليوم بوادر استعادة الدولة زمام المبادرة في التعامل مع الشأن الداخلي مغزى غير مسبوق في تاريخ لبنان.

«حزب الدولة»، الذي يمثله عمليا «تيار المستقبل» وقوى «14 آذار»، تعزز الأسبوع الماضي بمواقف ركنين أساسيين من أركان النظام اللبناني: رئيس الجمهورية، ميشال سليمان، الذي أكد على مرجعية «الدولة» في أي استراتيجية دفاعية مقترحة للبنان، ورئيس «جبهة النضال الوطني»، وليد جنبلاط، الذي رفض استمرار التلطي تحت شعار «الجيش والشعب والمقاومة» واصفا هذه الشراكة «الغامضة» بأنها تتم «على حساب الدولة والجيش والأمن والاقتصاد والمصير».

على خلفية هذه التطورات، يأخذ ادعاء القضاء اللبناني على النظام السوري بتهمة التآمر على أمن لبنان بعدا سياسيا استثنائيا، فمنذ استقلاله عن فرنسا عام 1943 ولبنان الرسمي يتصرف وكأن مقولة «العين بصيرة واليد قصيرة» هي شعار تعامله مع شقيقته الكبرى، سوريا. إلى أن «تجرأ» القضاء اللبناني على توجيه أصابع الاتهام إلى سوريا.

رغم أن «جرأة» لبنان القضائية والسياسية أتت متأخرة بضعة عقود عن موعد استحقاقها، ومتشفعة بانهيار جدار الرعب الذي سيّج به النظام السوري البلدين منذ أربعة عقود، فقد تصح أن تكون منطلق تحرر لبنان من عقدة «الشقيق القاصر» في تعامله مع سوريا.

ربما كانت الخلفية «الجيوبوليتيكية» بين البلدين مبررا، ولو مرحليا، لنظرة سوريا «الفوقية» إلى كيان جغرافي «شقيق» اقتطعته اتفاقية «سايكس - بيكو» أربعة من أقضيتها التاريخية.

ولكن اعتراف سوريا في اتفاقية الطائف بـ«نهائية الكيان اللبناني»، وما تبع ذلك من تبادل للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين يفترض تجاوز دمشق عقدة «سايكس - بيكو»، خصوصا بعد أن تجاوزت (ولا نقول تنازلت لتركيا) عن سيادتها على لواء الإسكندرون.

ولكن ذلك لا يعفي لبنان أيضا من مسؤولية «توطية حيطه»، على حد تعبير المثل اللبناني الشائع، بحيث أصبح القفز فوقه متاحا للجيران.. وكل بدوره وزمانه، ومعظم الأحيان بتواطؤ «وطني» من الداخل.. فهل يوظف اللبنانيون، أخيرا، الوضع الإقليمي المواتي لهم اليوم في بناء المدماك الأول في جدار أعلى في صرح دولتهم؟