الأطباء والممرضون.. «إرهاق إلى حد الاحتراق»

TT

شمولية أفق النظر تؤدي إلى شمولية أفق النتائج، أما ضيق أفق النظر فيؤدي إلى ضيق أفق النتائج.. تلك من المسلمات المنطقية في التفكير والتي شواهدها أكثر من أن تحصى. وهذا ما ينطبق بالضبط في جانب التعامل مع الطاقات البشرية الطبية وكيفية «الاستخدام الأمثل» (best utilization) لها في عمليات التشغيل للمنشآت الصحية.

وثمة ما يعرف في علم طب النفس بحالة «الاحتراق الوظيفي» (Burnout Job) أو ما يمكن أيضا ترجمته إلى «إنهاك الإرهاق الوظيفي»، وهو مصطلح نفسي يعبر عن المعاناة طويلة الأمد من استنزاف الاستهلاك اليومي للقدرات بما يؤدي لاحقا إلى التدني الشديد في الاهتمامات. ويعترف «التصنيف الدولي للأمراض» (ICD-10)، الصادر عن منظمة الصحة العالمية، بهذه الحالة ضمن الاضطرابات النفسية كـ«مشاكل ذات علاقة بصعوبات إدارة الحياة» (life-management difficulty).

وعود على بدء، فإن وصول أفراد طاقم التمريض إلى حالة «الاحتراق الوظيفي» شأن يجب أن تتم العناية به من قبل إدارات المستشفيات لأن عواقبه تطال بشكل مباشر الحالة الصحية للمرضى وتبعات ذلك المادية والاجتماعية والنفسية والمصادر البشرية وغير البشرية في المستشفيات. أي أنه في المستشفيات، حينما لا يكون أفق النظر شاملا في خططها الوظيفية والتشغيلية ومتابعتها لأداء العاملين واستبيانات مدى رضاهم، تكون النتيجة فوضى شاملة متعددة الأذرع.

وضمن عدد أغسطس (آب) من «المجلة الأميركية لمكافحة العدوى» (American Journal of Infection Control)، نشر الباحثون من كلية التمريض بجامعة بنسلفانيا نتائج دراستهم حول تبعات وتداعيات إصابة أفراد طاقم التمريض بحالة «الاحتراق الوظيفي». وبعد مراجعة حالة أكثر من 7 آلاف ممرض من 161 مستشفى بولاية بنسلفانيا، تبين للباحثين أن معدل متابعة كل ممرض هو 5.7 مريض، وأن كل زيادة بمقدار مريض واحد في عدد المرضى الذين يتوجب على الممرض متابعتهم، يعني زيادة بمقدار إصابة واحد منهم بالتهاب قسطرة مجاري البول في كل ألف مريض. وهذا ما يعني زيادة بنحو 1500 التهاب مجاري بول مريض في كل عام في تلك الشريحة من المستشفيات. ليس هذا فقط، بل وأيضا رصدت زيادة بمقدار حالتين من التهابات جروح العمليات لكل ألف مريض. وذكّر الباحثون بأن الكلفة المادية لمعالجة كل حالة من التهاب مجاري البول قد تصل إلى نحو ألف دولار، وأنها قد تصل إلى نحو 30 ألف دولار بالنسبة لالتهابات جروح العمليات.

وإضافة إلى توفير ما مجموعه أكثر من 41 مليون دولار سنويا في تلك الشريحة من المستشفيات عند العمل على تفادي الوصول إلى حالة «الاحتراق الوظيفي» لدى الممرضات والممرضين، فإن تعليق جين سيومتي، الباحثة الرئيسية في الدراسة، تضمن قولها «منشآت الرعاية الصحية بإمكانها تحسين مستوى عمل طاقم التمريض ورفع مستوى جودة الرعاية الطبية المقدمة للمرضى، وخفض معدلات الإصابات بالالتهابات الميكروبية بينهم، وذلك كله بالعمل على خفض مستوى الإصابات بالاحتراق الوظيفي لدى الممرضين والممرضات».

وبمراجعة مصادر الطب النفسي، يمكن ملاحظة 12 مرحلة يمر بها المرء وصولا إلى حالة «الاحتراق الوظيفي» في أي وظيفة كان يعمل بها. وهي بالتسلسل: ضغط الاضطرار أو الطموح أو المنافسة في إثبات قدرات الذات عبر قسر النفس على العمل بشكل قوي ضمن منظومة العاملين، والوصول إلى حد الوسوسة للقيام بعمل كل شيء دون الاستعانة بالغير. ثم دخول مرحلة إهمال احتياجات النفس ومتطلبات تحمل المسؤوليات الاجتماعية والنظر إليها على أنها غير ضرورية وليست ذات أولوية.

وهنا يبدأ المرء بالشعور بأن ثمة أمرا ما غير سوي، لكنه لا يرى المصدر الحقيقي له وهو استهلاك النفس في العمل، ويُصاحبه طرد التفكير السليم بالتفكير في الخطر الداهم إذا لم يستمر في إنهاك نفسه بالعمل. ثم تظهر مرحلة بدء الملل ومراجعة النفس حول مدى حقيقة أهمية القيم والأهداف والالتزامات في الحياة، ويتزامن مع هذه العزلة إنكار أن العمل يستهلك كل ما لديه من طاقات. ومع بدء ملاحظة المرء أنه لم يعد شخصا اجتماعيا ولا مهتما بجوانب عدة تتعلق بحياته، يبدأ في إلقاء الملامة على هذه الأمور في حجبه عن أداء أعماله الوظيفية ومتطلباتها.

ويلي مرحلة الانسحاب الاجتماعي الوصول إلى العزلة، وهي ما يصاحبها شعور بأن الشخص يسير بلا هدى ومن دون أي أمل، وهنا قد يبدأ اللجوء إلى الأدوية المهدئة أو المنومة أو الكحول. وحينها يبدأ المحيطون بالمرء في العمل أو المنزل في ملاحظة التغيرات السلوكية لدى الشخص، كما تبدأ مرحلة من فقدان التواصل الطبيعي مع النفس وضياع القدرة على الاهتمام بالذات واحتياجاتها لتتحول حياته إلى آلة تتحرك تحت ضغط شديد من تطلب العمل.

ومع بدء الشعور بالخواء النفسي، تبدأ عملية التعويض عبر مزيد من الإفراط في الأكل أو تناول الكحول أو استهلاك الأدوية المنومة أو المهدئة. ولا محالة تتطور الأمور إلى مرحلة الاكتئاب وفقدان الشعور بمعنى الحياة ومكوناتها النفسية والاجتماعية، لتصل الأمور إلى مرحلة «الاحتراق» وإنهاك الإرهاق وبالتالي الانهيار العضوي والنفسي.

استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]