هل تنطبق فلسفة التاريخ على العرب والمسلمين؟

TT

قديما قالوا: إذا عرف السبب بطل العجب. ونحن نريد أن نعرف سبب الانهيارات الحاصلة حاليا. بالطبع أول تفسير يخطر على البال هو أن الأنظمة الشمولية الديكتاتورية لم يعد لها مكانة في العالم المعاصر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودمقرطة أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وحتى القارة الأفريقية، بل والعالم كله تقريبا.

الناس تريد أن تعبر عن نفسها، المجتمع يريد أن يتنفس، التيارات السياسية المختلفة تريد أن تكون لها صحف وفضائيات تعبر عنها، كما تريد أن تمثل في الحكم من خلال انتخابات برلمانية حرة، إلخ.. كل هذا صحيح وضروري. لذا نشدد على أيادي الليبيين ونهنئهم بالانتخابات الأخيرة لأن ليبيا فيها تنفست لأول مرة بعد أربعين سنة من حكم قراقوشي طغياني سريالي تعجز العلوم السياسية حتى الآن عن وصفه أو إدراك كنهه. مبروك لإخوتنا الليبيين و«عقبى للآخرين»!

ولكن هل يكفي هذا التفسير يا ترى؟ ظاهريا يكفي. بل والبعض يعتقد أن كل المشكلات سوف تُحل من تلقاء ذاتها بضربة عصا سحرية بعد أن توصلنا إلى الديمقراطية الصورية أو الإجرائية. ولكن عندما ننظر إلى أعماق الأمور، إلى ما تحت السطح، ندرك أن المسألة أكثر تعقيدا بكثير. ذلك أن الديمقراطية فلسفة متكاملة وليست مجرد الذهاب إلى صناديق الاقتراع ووضع الورقة فيها.

هذه الفلسفة المتكاملة لم يتوصل إليها العالم المتحضر إلا بعد مسار متعرج طويل عريض. حرية الصحافة مثلا تم التراجع عنها في فرنسا أكثر من مرة قبل أن تترسخ وتصبح حقيقة واقعة لا رجوع عنها. وقل الأمر ذاته عن الحريات الدينية والسياسية التي شغلت أوروبا طيلة القرن التاسع عشر وحتى فيما وراءه. فمثلا لم تحققها إسبانيا والبرتغال إلا بعد سقوط الأصولي فرانكو والآخر سالازار في منتصف السبعينات من القرن الماضي.

إذن القصة صعبة وطويلة. قبل أن يتوصل إليها العالم المتحضر مر بمرحلة الحروب الأهلية والتقسيم على أساس طائفي أو عرقي وكل أنواع المجازر والأهوال الأخرى. هل نسينا أن الولايات المتحدة خاضت مع ذاتها حرب الانفصال، وأن الرئيس العظيم أبراهام لينكولن دفع حياته ثمنا لتوحيد أميركا؟ هل نعلم أن أميركا ظلت مرعوبة من قصة التمييز العنصري ضد السود حتى الستينات بل والسبعينات. كانت هذه المشكلة شغلها الشاغل، كانت تنخر فيها مثلما ينخر فينا وباء الطائفية أو المذهبية حاليا.

بعدئذ انتصرت الأفكار الحديثة على الأفكار القديمة وتضاءل العنصريون حتى خجلوا من أنفسهم، وربما تواروا عن الأنظار. هذه هي حركة التاريخ والتقدم البشري. إذا كانت قوانين العالم وفلسفة التاريخ تنطبق علينا، فإن ذلك يعني أننا لن نستطيع التملص من دفع ثمن المستحقات التاريخية المؤجلة والمتراكمة على مدار العقود بل والقرون! لن نستطيع التوصل إلى الشهد من دون التعرض لإبر النحل.

يخطئ من يظن أن العالم العربي ومن خلفه العالم الإسلامي كله سوف يتوصل إلى الحداثة الديمقراطية والحضارة الإنسانية ويحظى باحترام العالم قبل أن يخوض مع نفسه معركة المعارك، أم المعارك، أقصد تفكيك العصبيات الطائفية والعنصرية التي لا تزال سارية المفعول حتى الساعة. هنا تكمن فلسفة الديمقراطية وجوهرها. على هذا الأساس يمكن أن نقول إن هذا المجتمع ديمقراطي حديث أم لا. لا يكفي أن يضع بطاقة في صندوق الاقتراع وانتهى الأمر.

هذه عملية سهلة.. هل نعلم أنه يوجد في كل المجتمعات الديمقراطية قانون يمنع منعا باتا استخدام الأفكار الطائفية والعنصرية لإهانة أي شخص كائنا من كان عن طريق تعييره بأصله وفصله أو دينه ومذهبه؟ هل نعلم أنه ممنوع استخدامها في المناقشات السياسية حتى الحامية منها. يمكن أن تسفه مواقف خصمك السياسية أو الاجتماعية أو سواها عن طريق حجج مقنعة، ولكن لا يمكن أن تهينه في كرامته. أحيانا يلجأ إليها ممثل اليمين المتطرف ضد شخص عربي أو أفريقي إذا ما حشر في الزاوية إبان النقاش فيصرخون كلهم في وجهه ويقفون ضده وقفة رجل واحد.. لماذا؟

لأن المجتمع متحضر، واثق من نفسه، بعد أن تجاوز مرحلة الطائفية والعنصرية واكتوى بحر نارها. ولكن هل تجاوزها عن طريق القفز عليها أو التعمية والتغطية والغمغمة كما يفعل معظم المثقفين والسياسيين العرب؟ أبدا، لا. لقد تجاوزها العالم المتحضر عن طريق مواجهتها وجها لوجه بعد أن خاض معها، أي مع ذاته معركة ضروسا، شبرا شبرا، وبعد أن سمى الأشياء بأسمائها. بهذا المعنى فإن معركة الديمقراطية بالكاد ابتدأت في العالم العربي والإسلامي.

المشكلات كلها لا تزال أمامنا لا خلفنا على عكس العالم الغربي المتحضر المستنير. وسوف أقولها بكل صراحة ووضوح: إذا كانت فلسفة التاريخ تنطبق علينا فإن هذا يعني أننا سنمر بمرحلة الانقسامات والتشظيات والحروب الأهلية قبل أن نتوصل إلى شاطئ الأمان.

إنه التوحيد على أساس فلسفة حقوق الإنسان والمواطن لا على أساس اللاهوت السياسي الطائفي القديم العريق المقدس المعصوم الذي هيمن على البشرية الأوروبية حتى الثورة الفرنسية، والذي لا يزال مهيمنا على معظم دول العالم الإسلامي حتى هذه اللحظة. بالأمس القريب وقعت عن طريق الصدفة على مقالة للفيلسوف الفرنسي بول ريكور. وهو شخص محترم وغير معروف عنه كره العرب والمسلمين بشكل مسبق.

لقد لخص بثلاث عبارات تقريبا كل مشكلة العالم الإسلامي. وهنا تكمن ميزة الفلاسفة الكبار؛ إنهم لا يضيعون وقتك في اللف والدوران والثرثرات المجانية التي تقول كل شيء ولا تقول شيئا، وإنما يذهبون إلى صميم الأشياء أو صلب الموضوع دفعة واحدة. ماذا قال بول ريكور؟ قال إن «التراث الإسلامي لم يتعرض حتى الآن للنقد الداخلي كما حصل للمسيحية الأوروبية التي تعرضت لعدة غربلات نقدية كبرى على يد فلاسفة الإغريق، ففلاسفة الأنوار، فنيتشه، فالماركسية، إلخ.. والتراث أي تراث لا يمكن أن يكون حيا إلا إذا قبل بأن يتجدد، بأن يكون عرضة للنقاش والنقد وإعادة التأويل والتفسير، وإلا فإنه يصبح شيئا جامدا متحجرا متعصبا. وعندئذ يصبح مرشحا للانقراض!».

على هذا المستوى من العمق تنبغي موضعة الإشكالية التي أصبنا بها منذ الدخول في عصر الانحطاط. القصة أشد خطورة مما نتصور، والمرض عضال. وفلسفة التاريخ، فلسفة التقدم البشري، تقول لنا إن التشخيص الصحيح يسبق العلاج.