عيدية

TT

بعد غياب طويل من عمله في هذه المؤسسة، رأيت ريموند جالسا أمام طاولته وقد تغيرت ملامح وجهه وفقد شيئا من شعره. بادرته بالسؤال: «أين كنت يا رجل كل هذه المدة؟ إن شاء الله خير». قال: «كنت بين يدي عزرائيل أعاني من السرطان. تلاقفني الأطباء وأرجو أن يكونوا قد خلصوني من يده. وها أنت تراني أعود لعملي». قلت: رحمة الله واسعة وهذا شهر المراحم، رمضان الفضيل يأتي لنهايته. ولكن اسمع. سأروي لك هذه الحكاية، لقد زارني قبل سنوات الدكتور سليم، ابن صديق عزيز عليّ. وكان في حالة اضطراب والدموع تتزاحم في عينيه.

- عمو خالد. عندي مشكلة. لي صديقة أعرفها منذ نحو ثلاث سنوات. أحبها وتحبني.

- طيب. وشنو المشكلة؟ تزوجها وتوكل على الله.

- المشكلة أنها أصيبت بالسرطان. وأنا خايف. ووالدي ما يرضى.

- وأنت كنت تعرف أنها مصابة بالسرطان؟

- نعم يا عمي. وصارحتني من الأول.

- أنت دكتور وجراح. وهي كانت صادقة معك وصارحتك. إذا كنت خائفا مما قد يحصل ما كان عليك أن تواصل هذي العلاقة. ثلاث سنوات وأنت تعرف.

- أحبها لكن ما أعرف إيش أسوي. والدي يحذرني ويمنعني. ما أريد أزعله.

- ما تريد تزعل أبوك لكن ما عندك مانع تحطم قلب امرأة ويمكن تتسبب في عودة مرضها وتموّتها؟! حرام عليك يا رجل. كان عليك أن تتركها من الأول وما تستمر معها ثلاث سنوات. اسمع يا ولدي. عليك الالتزام الآن أمام ربك وأمام ضميرك. تروح تؤدي الواجب. وتتحمل المسؤولية.

انطلق من أمامي والدموع في عينيه والحيرة بادية على وجهه. اختفى ولم أرَه ثانية حتى تسلمت من البريد بطاقة الدعوة لحضور عرس الشابين. وفي حفلة العرس وقفت شقيقتها لتلقي كلمة عائلة العروس ولكنها لم تستطع إكمال الكلمة وانغمرت بالبكاء. كم سمعت عن دموع الفرح ورأيتها في تلك الدقائق. ثم قدمني سليم لفتاة طويلة القامة رشيقة القوام برونزية السحنة كتمثال من روائع فنون عهد النهضة.

- أقدم لك عروستي.

ثم التفت إليها وقال: هذا عمي خالد، أمرنا بهذا الزواج.

ومرت أشهر وعامان أو ثلاثة ثم تلقيت النبأ أن ياسمين حامل والآن في شهرها السابع. سألته كطبيب عن حالتها الصحية.

- لا خوف عليها. تخلصت من المرض منذ زمان. وهي الآن في خير. وستلد ولادة طبيعية بعد شهرين.

- يعني في عيد الأضحى. ونحن الآن في أيام عيد الفطر، وتعطيني هذا الخبر! يعني من عيد إلى عيد، فسبحان رب العالمين.

وهذه عيديتي لكل من داهمت بيوتهم في هذه الأيام الهنية أشباح السرطان وأقضّت مضاجعهم بالخوف والقلق والوسواس والفوبيا. لا تقنطوا من رحمة الله، فما أوسعها من رحمة ومن منجزات الطب الحديث، وما أعجبها وأروعها في مسيرتها الزاهرة، فأنا أيضا داهمني السرطان وقضيت عليه قبل أكثر من ربع قرن.