كينيث والتز وإيران.. القنبلة ليست الحل

TT

في العدد الأخير من مجلة «فورن أفيرز»، نشر عالم السياسة كينيث والتز مقالا بعنوان: «لماذا يجب أن تحصل إيران على القنبلة» (يوليو/ تموز – أغسطس/آب). ولمن لا يعرف والتز، فهو أحد أبرز مؤسسي المدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية (neorealism)، ويعتبر كتاباه «الرجل، الدولة، والحرب» (1959)، و«نظرية في السياسة الدولية» (1979) من الكتب المقررة في أغلب الجامعات حول العالم. المثير للانتباه أن والتز الذي تجاوز التسعين اختار الكتابة عن موضوع بعيد عنه، وهو المعروف كأستاذ في النظرية السياسية، لا مختص بشؤون الشرق الأوسط، ولكن رغم ذلك فإن مشاركة والتز في الجدل حول مشروع إيران النووي، تعد إثراء مشوقا للنقاش الجاد، وفرصة للتفكير في هذه الأزمة من خارج الصندوق كما يقال.

ملخص مقال والتز مفاده أن الدول الغربية، قد حاولت خلال عقد من الزمان، ثني طهران عن مشروعها النووي من دون فائدة، فقد خاضت جولات لا حصر لها من المفاوضات لإغراء النظام الإيراني بسلة من الوعود والتنازلات في مجالي الحوافز الاقتصادية والتعاون الذري، وجربت أيضا طريق العقوبات والحصار الاقتصادي الذي بلغ في الشهر الماضي مستوى قياسيا بمقاطعة الاتحاد الأوروبي للنفط الإيراني، وفرض عقوبات أميركية وأوروبية مباشرة على البنك المركزي الإيراني، من دون أن تتراجع طهران. ناهيك عن الحروب السيبيرية، والنشاط المخابراتي في استهداف العلماء الإيرانيين.

يقول والتز: «يوضح التاريخ أنه عندما تحصل الدول على القنبلة، يزداد شعورها بأنها معرضة للخطر، وترتفع حدة وعيها بأن أسلحتها النووية تجعل منها هدفا محتملا في عيون القوى الكبرى. ويمنع هذا الإدراك الدول النووية من اتخاذ إجراء جريء أو عدواني». كما يجادل والتز بأن »واضعي السياسات والمواطنين في العالم العربي وأوروبا وإسرائيل والولايات المتحدة يجب أن يشعروا بالارتياح لحقيقة أن التاريخ يثبت أنه أينما تظهر القدرات النووية، يظهر أيضا الاستقرار«.

في رأيي أن والتز - رغم إعجابي الكبير به - قد أحسن بإثراء النقاش حول الملف النووي الإيراني، ولكن أطروحته فيما يتعلق بهذه المسألة بالتحديد غير مصيبة، وذلك لأنها تتعارض مع ما تعلمناه في كتبه ومقالاته العلمية من شروط وأسباب موضوعية لطريقة تطبيق وتحليل السياسة الدولية. ولعلي أبدأ النقاش من حجته الرئيسية، وهي أن النظام الإيراني «غير انتحاري» ولا يقوده «ملالي مجانين». هذا صحيح، ولكن من جهة أخرى، فإن النظام الإيراني هو النظام العقائدي الخلاصي الوحيد الباقي، بعد انهيار دولة طالبان.

تبدو سياسات طهران «عقلانية» و«حسابية» كما يشير والتز، ولكنها في الوقت ذاته صدامية وعنيفة، ومسؤولة بشكل غير مباشر عن سقوط مئات الضحايا الأبرياء حول العالم.

يعطي والتز أمثلة تاريخية لإثبات وجهة نظره، ولكن كل تلك النماذج لا تشبه الحالة الإيرانية. خذ على سبيل المثال مقارنته الأساسية لإيران اليوم، بأنها كوريا الشمالية بداية التسعينات. لقد درست السياسة الإيرانية لمدة تجاوز العقد من الزمان، وتعرفت إلى شخصيات كانت حتى وقت قريب من رموز النظام الحاكم في طهران، وأستطيع القول وبكل تجرد - وأنا على المستوى الشخصي من المعجبين بالتاريخ والحضارة الفارسية - إن الفكرتين اللتين توصل بهما والتز إلى رأيه غير صحيحتين، فلا يمكن أن يقال إن حصول إيران على القنبلة سيحقق الاستقرار، أو النظام الإيراني يسعى للتسلح النووي فقط، لأنه يرغب في البقاء والمحافظة على نظامه من تهديدات الخارج.

لقد اختار المحافظون في طهران التخصيب العلني (2005) فقط بعد أن أقصوا بالترهيب والقوة منافسيهم على الساحة الداخلية، وفي وقت كانت فيه طهران تتمتع بعلاقات إقليمية ودولية جيدة بفضل جهود التيار الإصلاحي منذ منتصف التسعينات. قد يقال إن طهران كانت تخشى الولايات المتحدة، بعد أن أصبح المارينز على الحدود الإيرانية - العراقية، ولكن المعلقين الإيرانيين أنفسهم يؤكدون أن طهران استفادت من إسقاط الولايات المتحدة لاثنين من أبرز خصومها: نظام صدام حسين في العراق، وطالبان في أفغانستان، بل إن هناك شهادات ووثائق أميركية وإيرانية تشير إلى أن طهران ساهمت وتعاونت سرا مع الأميركيين في الحربين الأفغانية والعراقية.

حين يقارن والتز إيران بكوريا الشمالية، فإنه يجانب الصواب لأسباب ظاهرة؛ إذ ان الأخيرة هي نموذج للحكم الوراثي الشمولي، ولأن سياساتها في المطاف الأخير محصورة بالكوريتين ومعنية بالصراع الأميركي/ الصيني في ذلك الجزء من العالم، بينما إيران (النظام) لديها مشروع إقليمي جيوسياسي/ ديني يتجاوز النزاع الأميركي/ الصيني أو الأميركي/ الروسي، ولديها تنافس حاد أو (rivalry) كما نقول بالاصطلاح السياسي مع السعودية والعراق، وعلاقة مضطربة مع قوة إقليمية مثل مصر، تتجاوز الخلاف التقليدي، بل يمكن القول كما أشار إلى ذلك أستاذ العلوم السياسية آنوش احتشامي (2002)، إن الخلاف بين الدول الأربع: السعودية، والعراق، وسوريا، وإيران بوصفها «سماسرة السلطة» (powerbrokers) في المنطقة مستمر منذ نشوء النظام الإقليمي بعد الحرب العالمية الأولى، لأنها تنافس بعضها وتتحالف فيما بينها للحيلولة دون انفراد أحدها بالهيمنة على البقية. تحسنت العلاقات السعودية - الإيرانية زمن المد الناصري القومي ضد الوحدة المصرية - السورية، وتحسنت العلاقات السعودية مع سوريا والعراق، حينما كانت العلاقات مع مصر وإيران غير جيدة بعد كامب ديفيد والثورة الإيرانية، وخلال الحرب العراقية - الإيرانية تقاربت العلاقات السعودية - السورية، وتقاربت كل من مصر والعراق، ولكن بعد حرب الخليج الثانية (1990 - 1991)، دخلت السعودية ومصر وسوريا في توافق إقليمي ضد العراق جسده إعلان دمشق، وظل ساريا حتى أخل به الرئيس بشار الأسد بعد عام 2002، ووصل نقطة اللاعودة مع اغتيال الحريري في 2005.

من جانب آخر تحسنت العلاقات بين السعودية وإيران تدريجيا منذ المؤتمر الإسلامي في داكار عام 1991، ولكن لم يصل لمستواه المطلوب، إلا بعد اجتماع إسلام آباد بين الملك عبد الله - ولي العهد آنذاك - والرئيس المنتهية ولايته هاشمي رفسنجاني في 1997، وتوثقت العلاقة في عهد الرئيس محمد خاتمي بمباركة من المرشد الإمام علي خامنئي، وحتى بدايات الرئيس أحمدي نجاد - الذي زار السعودية أكثر من أي مسؤول إيراني في تاريخ إيران الحديثة - حاولت السعودية استيعاب النظام، وحتى بعد الاصطدامات المتكررة التي حدثت خلال السنوات السبع الماضية، حاول الملك عبد الله احتواء الرئيس نجاد، وهذا ماثل مؤخرا في جلوس الرئيس نجاد إلى جوار الملك، وتبسطه معه في الحديث والاهتمام في اجتماعات قمة مكة الأخيرة.

وعودة إلى مقال كينيث والتز، فإنه يمكن القول إن إيران ليست النظام الذي يوصى بإعطائه القنبلة - أو تقنيتها - كما يطالب والتز، بل هي نظام ما زال يعاني من ضعف الإجماع داخليا، ولا يزال البعض فيه - لا سيما بعض القادة في الحرس الثوري - منخرطا في مشروع توسعي إقليمي يمثله المحور السوري - الإيراني في لبنان وسوريا وغزة بالتعاون ـ للأسف - مع حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية.

حصول إيران على السلاح النووي لن يحقق التوازن، لأن الصراع الحقيقي ليس بين إيران وإسرائيل، بل بين إيران وجيرانها.

المقدمة التي اعتمد عليها والتز من أن التفوق النووي الإسرائيلي، هو الباعث وراء طموح إيران للحصول على القنبلة غير صحيح، بل يعتبر تأثرا بدعاية وتبريرات المتشددين داخل النظام الإيراني. المشروع النووي الإيراني ومحور الممانعة بالأساس موجه لتبرير اختطاف سيادة وحيوات دول ومواطنين في إيران وسوريا ولبنان وغزة وآخرين في دول الخليج، وما يجري في سوريا من تحالف دموي بين نظام بشار الأسد الأقلوي وحزب الله ضد الانتفاضة السورية ذات الأغلبية السنية، هو دليل على أن الصراع في حقيقته ليس على امتلاك إسرائيل القنبلة، بل لتبرير حكم الأقليات، وانفرادها بالهيمنة على المكونات الاجتماعية الأخرى بقوة السلاح، كما هو واضح في لبنان وسوريا والعراق، وهذا ما فات على والتز الانتباه إليه.

وأخيرا، فإن والتز محق في أن الدبلوماسية وتجنب الحرب ضد إيران هما الخيار الأسلم، ولكن الاستقرار لن يتحقق عبر تمكين بعض المتشددين من القنبلة، بل في الحيلولة دون حصولهم عليها.

في فيلم «الدكتور سترينغ لوف: كيف توقفت عن القلق وأحببت القنبلة» (1964)، يقول الكوميدي الراحل بيتر سيلرز: «رفيقك ليس لديه اعتبار للحياة الإنسانية، ولا حتى لحياته هو أيضا».