من الحرب على الإرهاب إلى الحرب على الطائفية!

TT

في خطوة استباقية مفاجئة وثاقبة أعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز عن تأسيس مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية في الرياض، وهي خطوة مفاجئة قفزت على الواقع المرير «للطائفية» التي تتسيد المشهد العربي والإسلامي - والمحلي جزء منه - بسبب تغول خطابها المتطرف نظرا لعوامل كثيرة متجذرة في التاريخ لكن أوارها ازداد اضطراما بفعل «الميديا» ووسائل الاتصال الحديثة التي بقدر ما حملت تباشير العولمة بما تحمله من تنوع إنساني إلا أنها انكفأت في شقها العربي نحو استنساخ المزيد من «الهويات» الصغيرة المتناحرة.

ما الجديد في دعوة الملك عبد الله، وقد شهدنا محاولات يائسة كثيرة لتبني خطاب متسامح نحو الآخر المختلف دينيا ومذهبيا؟

الجديد يتمثل في أنها دعوة ألقت بحجر جريء على مثلث الجغرافيا والتاريخ والواقع؛ حيث رغم التنوع الثري الذي تتكئ عليه المساحة الشاسعة من المملكة مناطقيا وبالتالي ثقافيا؛ فإنها كانت في نظر الكثير من المراقبين تصنف على أنها أحادية التوجه الديني بسبب مركزية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي كانت في فترات التأسيس «هوية سياسية» قبل أن تكون مذهبا إصلاحيا تتبناه الدولة آنذاك، فالتوحيد بين مناطق المملكة المختلفة استدعى فكرة «التوحيد» السياسي المتعالقة مع مفهوم «التوحيد» الديني، من جهة ثانية فإن على مدى التاريخ ورغم عزلة «الطائفة» الشيعية في المملكة بشكل يفوق نظيراتها في الخليج؛ فإن تلك العزلة تقرأ بشكل مبتسر ويستحضر دائما «العامل المذهبي» في حين أنه لم يكن فاعلا على مستوى رؤية الدولة؛ بدليل أنها الأقل اصطداما إذا ما أخذنا في الاعتبار الحوادث الطائفية التي شهدها العالم الإسلامي، على الأخص مناطق التوتر: أفغانستان، ثم العراق، ثم اليمن، تلك العزلة يمكن إرجاعها إلى ارتفاع منسوب الطائفية اجتماعيا، وهو بالمناسبة كان موازيا لتحيزات أخرى لا علاقة لها بالدين كالمناطقية والفرز الثقافي والتصنيف الفكري، وهي إشكالات أيضا شملها خطاب الملك الذي حذر فيه من «التنابز بالألقاب».

دعوة الملك أيضا نفذت إلى الواقع مباشرة دون مواربة حيث تختلط الطائفية الدينية بطائفية أكثر خطرا منها وهي الطائفية السياسية وتصدير التشيع السياسي الذي ليس له علاقة بنظيره العقائدي وإن كان رافعا له ومحفزا لإعادة نتائجه، شهدنا في السابق تصريحات لكثير من جماعات الإسلام السياسي انحازت للتشيع السياسي وإن كانت سنية العقيدة إن على مستوى الأفراد كما صدر عن المفكرين السعوديين والعرب في حرب لبنان الأخيرة أو من قبل على مستويات كثيرة من قبل اليسار التقليدي وحتى اتجاهات مكافحة العولمة و«الإمبريالية الغربية» التي تبناها مع اليسار فئام من الناصريين والقوميين العرب.

النفاذ للواقع بالدعوة للحوار والتعايش، رغم وقوفه على أرضية اجتماعية هشة لا تخص السعودية وحدها؛ بل تشمل حتى دولا علمانية استدخلت «الطائفية» في نسيجها السياسي؛ جاء ليعيد إلى الأذهان تجربة مماثلة في السياق السني، تجربة السعودية في الحرب على الإرهاب التي كانت في بداياتها ما قبل الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تجربة عسيرة جدا بسبب الصورة «النمطية» التي خلفها الجهاد الأفغاني، إضافة إلى ميل عدد من الشخصيات الدينية إلى التفريق بين الواقع المحلي ومناطق أخرى فيما يخص تجريم «التطرف المسلح»، لكن تفجيرات مايو (أيار) في الرياض طرحت رؤية سياسية جديدة وجادة في مكافحة الإرهاب استغرقت وقتا طويلا حتى أصبحت قناعة اجتماعية للأعم الأغلب من شرائح المجتمع السعودي.

لماذا هذا التذكير الآن؟ أعتقد أنه من الضروري جدا أن نقارن بين الدعوتين لمحاولة فهم أسباب نجاح الأولى طمعا في تفوق التجربة الثانية وهي تأسيس الحوار بين المذاهب وصولا إلى التعايش فيما بينها مع الاحتفاظ بحق الاختلاف والتنوع عبر الانصهار في مفهوم أشمل وهو «المواطنة».

في تجربة الحرب على الإرهاب التي ما زالت لم تقرأ بشكل جيد حتى الآن؛ كان هناك ما يمكن تسميته «الإمكان السني»، أي قدرة الفكر الديني السني على الاعتراف بمشكلة التطرف والإرهاب دون أن يعني ذلك تعميما على مذهب بعينه أو مدرسة عقائدية أو فقهية، وبالأحرى مناطقيا، فالعالم الذي توجس من أن 15 شابا ينتمون إلى بلد واحد كانوا من ضمن المشاركين في كارثة 11 سبتمبر، كان يصنفهم وفق مفهوم «المواطنة» كسعوديين رغم أن تنظيم القاعدة من حيث النشأة لم يكن كذلك، ومن ثم بات تنظيما عالميا ينشط تارة في المنطقة ككل بل ويتجاوز ذلك ليولد في عقر «الغرب» في إشارة إلى سذاجة ربطه ببلد أو مذهب معين.

الإمكان السني في تجاوز الإرهاب ساهمت عوامل كثيرة في تأسيسه لعل من أهمها هو جملة من التحولات طرأت على المدرسة السنية فيما يخص المراجعات والتحول باتجاه خطاب أكثر مدنية، ووجدت تيارات داخل البيت السني تقترب من روح العصر رغم احتفاظها بنظرية المعرفة التي ترتكز إلى النص فهما وتأويلا.

في تجربة «التعايش» المذهبي نحن بحاجة إلى «إمكان شيعي» يحاول تجديد رؤيته السياسية رغم الاحتفاظ بنظرية المعرفة لديه؛ بحيث يصبح من السهل عليه التفريق بين التشيع السياسي والديني، وأن خيار التعايش في منطقة الخليج مع الأكثرية السنية هو خيار استراتيجي للحفاظ على المكتسبات السياسية والاجتماعية وحتى الدينية، وهي مكتسبات ليست بالقليلة في منطقة تشهد المزيد من حالة «الفوضى» واللاستقرار.

هناك مؤشرات إيجابية وإن كانت غير كافية، فبالأمس القريب قدم سبعة من أبرز العلماء الشيعة في القطيف رسالة تسامح، عبر ترحيبهم بدعوة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز لتأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية في الرياض، مؤكدين رفضهم اللجوء إلى العنف أو استهداف الممتلكات والمؤسسات العامة. وإذا كان من الواجب تثمين مثل هذه الدعوة، فإنه من المهم التأكيد على أن فكرة «الإمكان» والقابلية لتقديم رؤى وأفكار جديدة فيما يخص التعايش المشترك؛ بحاجة إلى أكثر من مجرد بيان؛ وإن كان مؤشرا إيجابيا على خطوة في الاتجاه الصحيح، هناك حاجة ملحة لتفعيل هكذا تحولات إلى إنتاج خطابات فكرية يمكن لها أن تشق طريقها داخل النسيج الاجتماعي تعتمد على قراءات جديدة في الفكر الشيعي تشبه الأطروحات للتيارات الإصلاحية - التنويرية داخل الفكر السني، وهي أطروحات رغم حالات الرفض والإدانة تشق طريقها بشكل لافت ويمكن أن تكون مؤثرة في حال وجود مظلة سياسية بحجم وثقل دعوة الملك عبد الله.

صحيح جدا أن ثمة معوقات هائلة طرحتها مرحلة ما بعد الثورات بسبب تفكك البنى التقليدية للخطاب الديني المؤثر اجتماعيا، وانحياز المشهد العام لجماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها «الإخوان»، هذه المعوقات رغم رؤية «الإخوان» المعتدلة عقائديا فإن ارتباك أجندتها السياسية؛ قد يقودنا إلى تضخم التشيع السياسي كرد فعل وقائي تجاه خطاب الإسلام السياسي المزاحم؛ والذي ما زال في مرحلة إنتاج نفسه كخطاب سلطة وهو ما يعني المزيد من الوقت لينضج ويتنازل عن خطابه الشمولي القائم على أحلام الخلافة، وربما كان من المفاجئ لدى البعض ما أزعمه أن تلك الجماعات لديها إشكالية في التجديد والتحول على مستوى خطابها المثالي، وهي بالتالي بحاجة إلى «إمكان» تعززه نسبية السياسة وواقعيتها.

غني عن القول أن آخر ما يمكن أن نؤمله هو أن تقوم الأحزاب المدنية ليبراليها ويساريها بلعب دور ضابط للإيقاع في مشروع الخروج من النسق الطائفي مع أنها متجاوزة لمسألة «التحيز» الديني بسبب دنيويتها المفرطة؛ إلا أن بنية هذه الأحزاب في عالمنا العربي أنتجت طائفية آيديولوجية وحتى في نقدها للطائفية كرؤية دينية؛ كانت تعمد إلى التحالف مع الطوائف كما في الحالة اللبنانية، المشهد الأهم في الدرس الطائفي كجزء من البراغماتية السياسية، حتى انتقل إليها الوعي الطائفي في كثير من الأحايين بشكل لا واع.

يمكن القول: إن الأفكار لا تعمل خارج الواقع، لذا أعتقد أن أحد أهم تعقيدات مسألة الطائفية في واقعنا العربي والإسلامي؛ ما ستؤول إليه الأمور في بلدان ما بعد الثورات وتحديدا «الأزمة السورية»؛ التي أطلقت منذ يومها الأول صافرات الإنذار الطائفية بسبب ممارسات النظام الوحشي الذي أدرك جيدا أن استخدام هذا الملف «كفزاعة» واللعب على أوتاره يمكن أن يمنحه المزيد من الوقت.

خطوة البداية أن يدعم العقلاء في المنطقة مبادرة الملك عبد الله، كما أن المركز يجب أن تتبعه مبادرات أخرى تهدف إلى تحقيق ذات الطموح عبر جهود القيادات الدينية والثقافية في المجتمع والتي عليها أن تعيد قراءة الطائفية وتضع خطاباتها التي تستند إليها على مصطبة التشريح لتمييز «الزبد الذي يذهب جفاء» وأملا فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض!

[email protected]