كل سنة وأنت طيب.. بعيدا عن السياسة

TT

استراحة قصيرة من السياسة ونعود إليها بعد أسبوع، كل سنة وأنت طيب، كل سنة وأنت تسكن دارك فلا يضربك أحد بقذائف المدفعية والطائرات المقاتلة، ولا تخرج من دارك بعد أن تهدمت وكنت أنت محظوظا عندما بقيت على قيد الحياة، فتأخذ طريقك مشيا على الأقدام إلى حدود بلدك البعيدة باحثا عن خيمة إيواء وشربة ماء وقطعة خبز في وطن آخر. كل سنة وأنت تفتح صنبور الماء فتنزل منه المياه غير المختلطة بمياه الصرف الصحي، وتركب سيارتك فلا يقطع عليك أحد الطريق، وتركب القطار فيصل في موعده إلى البلد الذي تقصده لأن أحدا لم يخلع قضبان السكك الحديدية، فأوقفه وأوقفك في مكان مقطوع لساعات طويلة لسبب لا تعرفه، كل سنة وأنت ترسل بطفلك إلى المدرسة فيجد هناك من يعلمونه في صدق وإخلاص علوم الدنيا، ويصيبك المرض لا قدر الله فتذهب إلى المستشفى فتجد هناك أطباء يخفون إلى علاجك. كل سنة ولم يخطفك أو يخطف ابنك أحد طالبا فدية، كل سنة وأنت طيب لم ترفع على أحد قضية ولست مطلوبا في قضية.

يا لعبقرية الاختصارات في اللغة التي يتوصل إليها البشر لكي يوصلوا رسالتهم إلى الأجيال القادمة من بعدهم، الجملة لا تقول كل سنة وأنت عظيم أو غني أو قوي إلى آخر تلك الصفات التي يتمنى البشر أن يتصفوا بها، بل اختارت الطيبة لكي تكون هدفا أسمى تتمنى لك الحصول عليه. الطيبة.. يا لها من كلمة جميلة يعجز معظم الناس عن تبين معانيها ومراميها، المعنى الشائع لها هو التساهل والتنازل وتعود الصفح عن المسيء، ولكنها تعني في الدرجة الأولى الخير كل الخير (طوبى) كما تعني الوصول إلى أعلى درجات النضج، طابت الثمرة بمعنى أنها نضجت، كما تعني تمام الرضا، طاب لي كذا ويطيب لي أن أقول.. غير أني سأركز على النضج، الطيبة والنضج يمشيان معا، بل إن الطيبة هي وليدة النضج، وفي غيابه لا تكون الطيبة إلا بلاهة وشرا مقنّعا. سأحكي لك الآن حكاية من تاريخنا المعاصر، السيدة جيهان السادات لدافع ما تذكرت أن من حقها كأرملة للرئيس السادات أن تحصل على معاش من يحملون «نجمة سيناء»، كان من الطبيعي أن تتصور ذلك لأن زوجها - رحمه الله - على الأقل هو الذي أعاد سيناء، وجاءها الرد.. لا تستحقين معاش «نجمة سيناء» لأن الرئيس السادات لم يحصل عليها. أي أن السادات لم يمنح نفسه «نجمة سيناء» ربما بدافع من السهو أو الانشغال بما هو أجل.. حسنا دعنا نلتزم باحترام القانون، ونفكر في عناصر الحكاية، هذه هي أرملة رئيسي وقائدي الأعلى السابق الذي قام بتعييني نائبا له إلى أن أصبحت رئيسا لأقدم بلد في التاريخ.. زوجته في حاجة إلى المال.. حسنا.. روح يا زكريا.. خد معاك خمسة مليون جنيه وروح زورها، واضح إنها محتاجة فلوس اليومين دول.. بلاش من الميزانية، انزل المخزن حاتلاقي كراتين الخمسات وانت داخل على الشمال، تحت كراتين العشرات.. وبعدين تعالى نطلّع قرار جمهوري نمنح فيه الرئيس السابق الله يرحمه وسام «نجمة سيناء» ونصرف لها المتأخر على طول.

ولكن ذلك لم يحدث لغياب الطيبة، بمعنى أدق، لغياب النضج الذي يحتم روح المسؤولية، لغياب الفهم لأصول الحكم، يا له من أمر غريب أن الرجل الذي أعاد سيناء لم يحصل على نجمتها، وكأننا لسنا نحن صناع القوانين وصناع الفلوس وصناع القرارات التي تعطي هذه الفلوس للناس أو تحرمهم منها. أنا أعتقد أن هذه الحكاية هي السبب في أن الرئيس مرسي بمجرد وصوله إلى مكتبه قام بمنح نفسه كل الأوسمة والنياشين المتاحة، وأنا أرى ذلك سلوكا بشريا طبيعيا، أنا شخصيا لو كان قد تم تعييني وزيرا للثقافة في الوزارة الجديدة، كنت سأحصل على الفور على كل الجوائز التي فاتتني من التشجيعية إلى التقديرية، غير أنني كنت بخبرتي المسرحية سأقوم بإخراج العملية بشكل مختلف، كنت سأترك المجلس الأعلى للثقافة يطالبني بشدة بقبول هذه الجوائز، فأرفضها في لطف شاكرا، بعدها يقومون بتهديدي بالاستقالة فأشكرهم مرة أخرى وأنبههم إلى أن الوطن يتطلب منا في هذه المرحلة أن نتفرغ للعمل وليس للحصول على الجوائز حتى وإن كنت أستحقها جميعا بالفعل، ولكن ذلك لا يثنيهم عن مطلبهم ويصعدون الموقف بأن يعتصموا في مبنى الوزارة ويهدد بعضهم بالانتحار، وهنا فقط وليس قبل ذلك أوافق على الحصول على الجوائز كلها دفعة واحدة بأثر رجعي بسبب الضغط الشعبي الثقافي.

الحياة طيبة، والبشر فقط هم من يفسدون طيبتها وطيبها، والودعاء بالفعل يرثون الأرض أما الأشرار فهم يحاولون الاستيلاء عليها ليحرموا الناس من أنصبتهم فيها، وبقدر الرقة والتهذيب في مجتمع ما يكون الإنجاز والتقدم. كل زعماء التاريخ الذين قادوه في طريق مصلحة الناس وحريتهم يتسمون بالطيبة. منذ أيام نجح علماء الـ«ناسا» في إرسال عربة أبحاث إلى المريخ، بالقطع أنت شاهدت هذه المجموعة من العلماء على الشاشة الصغيرة وقد استولت عليهم الفرحة، ربما تكون أكبر فرحة في الدنيا، أريدك أن تتذكر ملامحهم، كلهم يمكن وصفهم بأنهم أناس طيبون. الطيبة هي الطريق إلى الفرحة لأنها بالفعل الطريق إلى الإنجاز.

تذكر ملامح وصفات هؤلاء الأشخاص الطيبين الذين تعمل وعملت معهم في مشوار حياتك، ستلاحظ بسهولة أنهم كانوا قادرين على تحمل المسؤولية، وقادرين على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب. هناك في كل أسرة يوجد شخص طيب يتسم بالحكمة والعدل، يذهب إليه الجميع يعرضون عليه مشاكلهم وينتظرون كلمته فيها. هكذا يمكن الوصول إلى فكرة صحيحة هي أن المجتمعات التي تفتقر إلى التهذيب والرقة في خصوماتها، هي مجتمعات بعيدة إلى أبعد الحدود عن روح المسؤولية وأنها في حاجة إلى معجزة إدارية تعود بها إلى حالة الطيبة الضرورية للإنجاز.

هناك ظاهرة لافتة للنظر في معظم تمثيليات التلفزيون في رمضان، فقر مدقع في الحرفة، افتقار إلى الرؤية الإنسانية العامة وانعدام للرؤية المجتمعية وقد خلت كلها من شخص طيب يدافع عن قيمة ما، الأبطال معظمهم من الأوغاد، كذابون يكذبون على كذابين، نصابون ينصبون على نصابين، متآمرون يتآمرون على متآمرين، لصوص يسرقون لصوصا ثم بدعوى الواقعية يسمع المتفرج حوارا متدنيا هو الأقرب للسفالة. ثم الخيانة، خيانة الصداقة والأصدقاء، خيانة الأمانة، كل الناس تخون بعضها البعض، كل مديري الأعمال وموظفي السكرتارية يخونون أصحاب العمل ويبيعونهم لخصومهم. مع من من هذه الشخصيات يتوحد المشاهد؟ وكأن صناع هذه المسلسلات اكتشفوا فهما جديدا وبائسا للدراما، أن تشعر المشاهد بالعجز واليأس واحتقار الحياة.

الحمد لله، أعتقد أنني نجحت في الإفلات من السياسة هذا الأحد، ولا شك أنك تحسدني على نجاحي في أن أقول لك كل سنة وأنت طيب في نحو تسعمائة وخمسين كلمة فقط.