يومان إسلاميان بامتياز

TT

أمضيتُ يومين في رحاب مكة المكرمة، أتابع عن قرب مؤتمر القمة الإسلامية الاستثنائية التي دعا الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى عقدها، بينما الأزمة السورية تزداد اشتعالا وبينما الارتباك الدولي - الإقليمي - العربي في شأن هذه الأزمة يراوح مكانه، فلا النظام في سوريا يتجاوب مع محاولات لتسوية الأزمة بالتي هي أعقل، ولا قادة الجماعات المنتفضة على النظام يخففون من دعوتهم إلى إسقاط الرئيس بشَّار الأسد. وفي نهاية كل يوم ومن دون أن يأخذ التعقل طريقه إلى أسلوب التعامل مع الأزمة تكون عشرات الأرواح فاضت، نتيجة اعتماد الحل الأمني منذ الشهر الأول قبل سنة ونصف السنة، الذي أثبت عدم جدواه هذا عدا الدمار الذي ينشأ عن صواريخ تنطلق من راجمات أرضية أو من طائرات ومروحيات وهو مشهد لم يسبق حدوثه بهذه الشراسة من قبل. ومن المؤكد أن الملك عبد الله بن عبد العزيز - الذي حرص بداية بما أعطاه الله من رجاحة العقل وحُسن التدبير على أن تنجو الأمة من شر ويلاتها وبالذات الويل السوري الراهن - رأى وفي هدي الآية الكريمة «أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوب أقفالها» أن يحاول من خلال استنفار الأمة الدعوة إلى مؤتمر يستنهضها ويقال منه بالصوت الأعلى للنظام السوري الممعن إقفالا للقلوب (بمعنى العقول): كفى تغييبا للعقل تفعله مع شعبك. وكفى إراقة دماء وتدمير أحياء. وبدل الإصغاء إلى كلام أثبتت الممارسة عدم جدواه، اعمل كمسلم بأقوال السلف الصالح في أهمية أن يكون ولي الأمر متعقلا وبذلك يسلم من التهور وينقذ البلاد من الويلات اقتتالا كانت هذه الويلات أم تأسيسا لانقسام الشعب على نفسه والجيش جيشين.. وبالتالي حدوث الويل الأكبر الذي هو الحرب الأهلية.

هنا أستحضر كباحث وكاتب من التراث المضيء ما من شأنه أن يهدئ من روع الرئيس بشَّار فيخفف من ترويع شعبه وبذلك فرَّط في علاقات طيبة مع المجتمع العربي وبإمكانية تطوير علاقات مستقرة مع المجتمع الدولي، كيف كان السلف الصالح قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة يرى أهمية العقل عند التصرف وعند إدارة شؤون الرعية. أستحضر كيف خاطب الإمام علي (رضي الله عنه) ربه بالقول: «ربِّ مَن وهبتْه العقل فماذا حرمْتَه، ومَن حَرْمتَه العقل فماذا وهبْتَه». وقل للمتبقين في ديوان نظامك أن يقرأوا على مسمعك وبأعلى صوت الحديث القدسي الذي رواه الرسول صلى الله عليه وسلم عن لسان ربه: إن الله لا يقبل صلاة عبده ولا صومه ولا زكاته ولا صدَقَته ولا حَجه ولا عُمرته ولا قولا من أقوال البِر يقوله إذا لم يكن يعقِل، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال له: اسمع فسمع. افهم ففهم. أقبل فأقبل. أدبر فأدبر. ثم قال له: «وعزتي وجلالي وعظمتي وسلطاني وقدرتي على خلْقي ما خلقت خلقا أكرم منك عليّ ولا أحبَّ منك إليّ ولا أعلى منزلة عندي؛ لأني بكَ أُعرف وبك أُعبد وبك أُحمد وبك أُعطي وبكَ أُعاقب ولك الثواب»..

جاء إلى مكة المكرمة الذين يمثلون المليار ونصف المليار نسمة في العالم وهي نسبة تؤهل الأمة الإسلامية لكي يكون لها مقعد سادس في نادي الخمسة الكبار مالكي سلطة «الفيتو» الذي تتواصل الأزمة السورية دما ودمارا وتعقيدا بسبب استعماله من جانب الدولتين اللتين تدعيان وصلا بسوريا، أي روسيا والصين. ولولا أن مكان انعقاد القمة الإسلامية الثانية عشرة في تاريخ القمم الإسلامية ليس مكة والداعي هو خادم الحرمين الشريفين لما كانت المشاركة حدثت على مستوى القادة عدا استثناءات اضطرارية في معظم حيثياتها. ولقد رأينا بضعة قادة بثياب الإحرام بدل لباس الأبهة الذي يظهرون به على شعوبهم أو خلال زيارات خارجية لهم، وبهذا اللباس لم يعد هنالك تمييز لدى المشاهد بين محمد مرسي وصاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني والرئيس الشاغل البال الإسلامي محمود أحمدي نجاد وسمو الأمير حمد أو الشيخ صباح والجنرال البشير.

ولكن ما هو الأهم في ما شاهدناه هو ما فعله الملك عبد الله بن عبد العزيز لجهة ترويض المواقف، حيث إنه وفي لفتة أخذت شكل رسالة إلى أطراف كثيرة استبق الساعة التي سبقت انعقاد القمة بعد تناول طعام الإفطار مساء يوم الثلاثاء 14 أغسطس (آب) 2012 بأنه في القاعة التي جلس فيها لاستقبال القادة المشاركين في القمة سجل الرسالة اللافتة، وهي أنه لم يكتفِ بمصافحة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الذي - عن مصادفة أو عن سابق ترتيب بروتوكولي - كان أول الواصلين وإنما أجلسه إلى جانبه فبدا في ذلك كمن يمهد لترجمة دعوته في الكلمة الافتتاحية للقمة إلى تأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية يكون مقره الرياض، أي بما معناه ضمنا إن ركنْي هذا الحوار معقودان عمليا للسعودية تمثيلا لأهل السُنة ولإيران تمثيلا للمذهب الشيعي. وفي ضوء إنجاز هذا المركز في حال إنشائه أن يساعد على تحقيق ما يراه الملك عبد الله على نحو ما قاله أيضا في الكلمة الافتتاحية «إن الحل الأمثل لانتشالنا لا يكون إلاَّ بالأقوياء..»، مخاطبا الذين يمثلون 56 دولة المشاركين في المؤتمر: «أستحلفكم بالله أن نكون على قدر المسؤولية وأن نكون جديرين بحمْلها وأن ننصر الحق مستدركين قول الحق تعالى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبِّت أقدامكم)». نلاحظ هنا أن الملك عبد الله لم يستثنِ شخصه بحيث يقول «أن تكونوا» بدل «أن نكون». وهو بذلك قال ما معناه إن المطلوب هو من القادة المسلمين دون استثناء، وبذلك نأى عن التفرد والتميز بأن الواجب مطلوب من الجميع. إلى ذلك بدا الملك عبد الله في عبارة «إن الحل الأمثل لانتشالنا لا يكون إلاَّ بالتضامن في زمن لا يعترف إلاَّ بالأقوياء..»..

باتت الرسالة كثيرة الوضوح ومضمونها أن هؤلاء القادة يمثلون الخليج الذي يحتاج إلى خطوات تبعث في النفس الشعور بالاستقرار وتأتي من الجمهورية الإسلامية في إيران. وفي السياق نفسه يستغرب المراقب مثل حالي كيف أن الرئيس المصري الآتي إلى القمة مثقلا بارتباكات ناشئة عن أنه في خطوة مستنسخة من خطوة أردوغانية وأخرى بوتفليقية تجاه مصر المؤسسة العسكرية لم يأخذ مكانته في القمة وإلى حد أنه كان مشاركا عابرا.

يبقى تعليق عضوية سوريا في «منظمة التعاون الإسلامي» وهو قرار حظي بإجماع 99 في المائة في القمة، أحد أهم القرارات التي انتهت إليها القمة الإسلامية الثانية عشرة مع ملاحظة أن التعليق يبقى دائما نوعا من التأديب الملطف للنظام الذي يتم إنزال عقوبة التعليق به. هذا ما حدث مع مصر الساداتية عام 1979 وشمول التعليق العضوية في الجامعة العربية ونقْل مقر الأمانة العامة إلى تونس واستبدال الأمين العام المصري بأمين عام تونسي. وبقي التعليقان قائمين وعلى وقْع عبارة شهيرة للسادات هي«خليهم ياخدوا الجامعة أنا مش عايزها. أنا والسودان (نميري) نص الأمة العربية»، إلى أن قضى السادات اغتيالا واستعادت مصر حسني مبارك العضويتين ومقر الأمانة العامة ثم حق أن يكون الأمين العام مصريا. وتدليلا على أن المسألة مجرد تأديب من دون فعالية أن التعليقين كانا على الأرجح سيستمران لو لم يقضِ السادات اغتيالا. ذلك أن التعليق كان ضد انفراد السادات بعقد معاهدة مع إسرائيل وها هي المعاهدة مستمرة. وبالنسبة إلى النظام السوري فإن التعليق في حال بقي تأديبا ملطفا لن يثني الرئيس بشَّار عن مواصلة رهانه الأمني، وبحيث ستتناثر سوريا بشرا وحجرا إلاَّ إذا هو ارتأى وفي صحوة مفاجئة الأخذ باعتماد العقل سراجا منيرا وعلى نحو ما أشرنا إليه في سطور سابقة وبالذات ما قاله الإمام علي بن أبي طالب وما يتضمنه الحديث القدسي.

في أي حال كانت القمة الإسلامية الثانية عشرة هي قمة تسجيل حجم المعاناة التي تعيشها الأمة. وكانت ظروف انعقادها بدعوة من الملك عبد الله بن عبد العزيز وفي مكة المكرمة مثل ظروف القمة الأولى التي استضافها والده الملك عبد العزيز عام 1927 وفي مكة المكرمة. طيَّب الله ثرى الوالد المؤسس الأول وأطال الله عمر الابن الذي هو رمز التأسيس الثاني. وبين قمة الأب وقمة الابن قمم استضيفت في الرباط ولاهور والدار البيضاء والكويت ودكار وطهران وماليزيا، ولكنها قمم افتقدت إلى المسحة الروحانية، إلى أن جاءت القمة الثانية عشرة في مكة بيوميها الناجحين بامتياز (14 - 15 أغسطس 2012) بروحانية القمة الثالثة في مكة أيضا عام 1981 تضفي على تعامُل المسلمين مع قضاياهم ضرورة أن يعتمدوا العقل في ما يفعلون وأن يعود كل منهم إلى الآية الكريمة «ونُخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا». صدق الله العظيم