زنزانة الرئيس

TT

كتب محمد علي الأتاسي في «نيويورك تايمز» عن 22 عاما عاشها والده، نور الدين الأتاسي، منذ الانقلاب عليه في نوفمبر (تشرين الثاني) 1970 إلى ما قبل وفاته بأسبوع واحد في 3 ديسمبر (كانون الأول) 1992.

22 عاما في زنزانة واحدة، والأسبوع الأخير في الحرية، مريضا في مستشفى فرنسي.

كانت عائلة الرئيس السابق تزوره مرة كل 15 يوما. وعندما توفي، بلا عفو، وطبعا بلا تهمة أو محاكمة، أرسلت إدارة السجن إلى عائلته حقيبة صغيرة فيها حاجاته الخاصة، بيجاما وبطانية. في السجن أيضا، توفي رفيقه وشريكه في الحكم، صلاح جديد.

كيف يمضي رئيس سابق 22 عاما في زنزانة من دون تهمة أو محاكمة، في بلاد يسهل فيها فبركة التهم وإلصاق العمالة والخيانة وإصدار أحكام الإعدام مع فنجان الشاي. لم يكن نور الدين الأتاسي خائنا أو عميلا أو انحرافيا أو رجعيا أو ذيليا، بل كان رجلا من حزب البعث أمضى سنواته الأولى طبيبا في صفوف ثوار الجزائر. كيف وبأي قانون وبموجب أي تفكير أو تبرير ينقل من رئاسة الجمهورية إلى زنزانة مظلمة، عفنة، وجبة الغداء فيها بيضة مسلوقة، وكذلك العشاء. ووجبة الصبح، لماذا الترف؟

دعونا نفكر، ليس في الخصوم والأعداء، الذين وضعوا في سجون النظام العربي، وإنما في الرفاق والإخوة وزملاء المدارس الحربية. حكم أنور السادات على محمود السعدني، أحلى ابتسامة مصرية، بالسجن مرتين. كيف؟ نصف قرن من العبث الفظ والحجري، ما بين رفاق سعداء الحظ يرسلون إلى المنفى، وأقل حظا يرسلون إلى الأقبية الفاحمة، وبلا حظوظ إلى منصات الإعدام.

لماذا؟ لماذا لا يكتفي الحاكم بالإقامة الجبرية، مثلا؟ كم جمهورية توالت على ليمان طرة في مصر؟ كم امتلأت سجون العراق بالهياكل العظمية؟ هل هذه هي الصيغة الوحيدة للحكم: الصمت والزنزانات والقبور؟

ماذا عندما يأتي يوم ينتهي فيه الصمت؟ بنى الاتحاد السوفياتي (وكواكبه في أوروبا الشرقية) أعتى نظام أمني صمتي في التاريخ. وضع الملايين في سيبيريا وفي السجون وفي المصحات العقلية وفي معسكرات الأشغال الشاقة. لكن فاته أن يبني أي شيء آخر. فعندما سقط الأمن هر كل غبار آخر. فككت الناس جدران برلين بأيديها. وماذا بقي بعدما سقط أمن تشاوسيسكو أو فتحت أبواب الدهاليز في ألمانيا الشرقية؟ ذهب رئيس المخابرات يشتغل طباخا في نيويورك.

الأمن قبل الخبز. لكن لا أمن من دون خبز. ولا معنى للخبز دون كرامة. كان محمد علي الأتاسي يكتب ثأر أبيه في «ملحق النهار». الآن يكتب في «نيويورك تايمز». يريد ألا ينسى العالم رائحة الزنزانة في سجن أبيه، والحقيبة التي خرجت منها: بطانية وبيجاما ولقب الرئيس السابق: السيد الرئيس السابق.