مزيد من الحروب بانتظار السودان

TT

شهدت الأعوام الثلاثة والعشرون الماضية من حكم الرئيس السوداني عمر حسن البشير، حربا أهلية لم تتوقف تقريبا، ثم مؤخرا انفصال جنوب السودان وصدور لائحة اتهام بارتكاب مذابح جماعية من قبل محكمة العدل الدولية بحق البشير نفسه. وحاليا تتعرض حكومته لهجمة من جيوش متمردة تقدر قوتها مجتمعة بـ60.000 مقاتل، ناهيك عن المظاهرات التي اندلعت بعد سحب دعم البنزين، وعجز الميزانية الضخم وفشل موسم الحصاد والارتفاع الكبير في أسعار الغذاء، ما يؤشر على أن أيام البشير باتت معدودة.

لكن إسقاط البشير لن ينهي الصراع، وقد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة، فالمجموعات التي تعارض البشير توحدها كراهيتها المشتركة له ولحزبه أكثر من اتفاقها على رؤية موحدة لمستقبل السودان. وإذا ما أسقطوه فسرعان ما سيدب بينهم الخلاف بشأن النقاش طويل الأمد وغير المحسوم الذي خيم على السودان منذ نشأته حول العلاقة الأنسب بين الإسلام والدولة السودانية.

تولى البشير السلطة في عام 1989 إثر انقلاب كان حسن الترابي، الذي أسس في الستينات جبهة الميثاق الإسلامي النسخة السودانية من «الإخوان المسلمين»، العقل المدبر له. وكانت النظرية السياسية الأساسية للترابي، ولا تزال، تقوم على أن القرآن يحتوي على كل الأسس المطلوبة لحكم دولة حديثة.

وتحت تأثير الترابي (الذي عمل وزيرا للعدل في أواخر الثمانينات قبل تولي البشير السلطة) هيمن الإسلام السياسي على الشؤون الداخلية السودانية، فأبعدت الآلاف من النساء السودانيات من الوظائف المهنية لأن عملهن لا يتفق وما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة، وحلت الشريعة الإسلامية محل القانون المدني العلماني، وأقيمت محاكم إسلامية مستقلة بموجب قانون المحاكم الخاصة وطبقت الشريعة الإسلامية على كل المواطنين من مسلمين وغيرهم.

أنشئ أيضا نظام مصرفي إسلامي، ما يعني أن المصارف لن تتمكن من الحصول على فائدة على القروض، ذلك الإجراء الذي أعاق في وقت لاحق إنشاء شركات جديدة وبخاصة من قبل غير المسلمين الذين يمتلكون بالفعل وصولا محدودا إلى المصارف الإسلامية. حلت اللغة العربية محل الإنجليزية كلغة للتعليم في جامعة الخرطوم وأصبح تعيين الأساتذة عملية سياسية.

كان الترابي ذاته هو من دعا أسامة بن لادن في عام 1991 لإنشاء مقر «القاعدة» في السودان. أثناء إقامته في الخرطوم تزوج بن لادن إحدى بنات أخت الترابي، الذي دعا جماعات إسلامية راديكالية أخرى، مثل حماس، حزب الله والجماعة الإسلامية، وفق رؤية تحويل السودان إلى قاعدة العمليات للأسلمة الراديكالية لدول جنوب الصحراء الأفريقية.

بحلول منتصف التسعينات، رفعت حكومة الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب درجة مؤشر الخطر لتصاعد الأسلمة الراديكالية في السودان، وبدأوا بالضغط على البشير لطرد هذه المجموعات من السودان، (قيل بأن الترابي كان يقف خلف محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في عام 1995).

وافق البشير في نهاية المطاف لأنه أدرك أن هذه السياسات تعزل السودان عن العالم العربي، ولكن طرد هذه المجموعات أدخله في خلاف مع الترابي. وبسبب هذا القرار، فضلا عن خلاف مرير عام حول سلطات الرئيس، أصبح الرجلان عدوين لدودين، (أراد الترابي أن ينتخب حكام الولايات وأن يكون البرلمان قادرا على محاسبة الرئيس كمحاولة لتجريد الرئيس من صلاحياته بعد طرده للجماعات الإسلامية).

وهما لا يزالان كذلك على الرغم من الجهود المتكررة من قبل جماعة الإخوان المسلمين المصرية لرأب الصدع. يعيش الترابي الآن في أواخر السبعينات من العمر ويعتقد أنه في الخرطوم. وعلى الرغم مما تجره عليه تصريحاته من مضايقات رسمية وتنتهي به إلى السجن، فإنه لا يزال يحتفظ بقدر من المؤيدين من الإسلاميين ويعتبر من التأثير بدرجة يصعب معها توجيه إساءة جدية إليه.

بعد أن بدأت عائدات النفط تتدفق في خزينة الحكومة المركزية بعد 1998، حادت المهمة الأساسية لجماعة البشير بعيدا عن هدفها بنشر الإسلام الراديكالي في أفريقيا باتجاه المحافظة على الذات، على الرغم من استمرار الآيديولوجية والمؤسسات الإسلامية.

يضم تحالف المتمرد الذي يخوض حربا الآن مع الخرطوم مجموعات تنادي بالديمقراطية وتطالب بإنشاء دولة علمانية، واحترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، والتعددية الحزبية وقانون علماني مدني – المبادئ التي تضمنها البيان الرسمي للتحالف.

ويطالب عبد العزيز الحلو النائب السابق لحاكم ولاية جنوب كردفان، ومالك عقار الحاكم السابق لولاية النيل الأزرق - الاثنان قياديان سابقان في الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي خاض حربا أهلية طويلة ضد قوات البشير - بالتطبيق الشامل لنصوص اتفاقية السلام الشاملة التي توصلت إليها حركتهما مع حكومة السودان عام 2005.

تتضمن الاتفاقية نصوصا تسمح لولايتيهما بإدخال مواطنيهما في عملية المشاركة الديمقراطية لتحديد كيفية حكم أنفسهم في المستقبل. أوقف البشير العملية فجأة وحاول بطريقة فاشلة تصفية عقار والحلو معا، لكن التحالف المعادي للبشير يضم أيضا عدة جماعات إسلامية، مثل حركة العدل والمساواة من دارفور، مجموعة متمردة تستلهم رؤية الترابي الإسلامية.

وكانت القوات الجوية السودانية قد قتلت مؤسس وقائد حركة العدل والمساواة في هجوم ليلي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ومن ثم فلدى الحركة دافع إضافي مباشر للتخلص من حكومة البشير، وهو الثأر.

لكن الحركة عندما وقعت على البيان المشترك مع مجموعات علمانية أخرى، رفض قادة العدل والمساواة علنيا مع مبدئه المركزي الخاص بالدولة العلمانية. وهم ليسوا وحدهم، فاثنان من أحزاب السودان التاريخية، حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، يؤمنان بدولة ديمقراطية، لكنهما يدعمان تطبيق الشريعة الإسلامية المفهوم المميز للسودان كدولة إسلامية.

ليس مؤكدا ما إذا كان المتمردون قادرين على إسقاط حكومة البشير، لكن حتى وإن تمكنوا من ذلك، فربما يهيئون بذلك المسرح فقط لحرب أهلية جديدة. وإذا كانوا هم وحلفاؤهم في الغرب يريدون إسقاط البشير فيجب أن لا تراودهم الأوهام حول حظوظ مستقبل ديمقراطي وسلمي للسودان.

* أندرو ناتسيوس المبعوث الخاص للولايات المتحدة للسودان (2006 - 2007) والأستاذ في كلية جورج دبليو بوش للحكومة بجامعة تكساس إيه آند إم ومؤلف كتاب «السودان وجنوب السودان ودارفور: ما يتعين على أي واحد معرفته»

* خدمة «نيويورك تايمز»