الإنترنت ليس عالما افتراضيا

TT

يقول أحد رواد موقع «فيس بوك»: «لقد أصبحت الإساءة للسمعة لا تكلف سوى بضع نقرات على جهاز الكومبيوتر، تحاك القصص المسيئة ضد شخصية أو مؤسسة أو دولة بهذه البساطة وتنتشر بسرعة البرق، وغالبا ما يصدقها الناس».

هذا النوع من الشكاوى ظهر أول ما ظهر في الشهور الأولى لدخول خدمة الإنترنت واستخدام المنتديات الإلكترونية في السعودية ودول الخليج في عام 1998، الدول التي لدى شعوبها الكثير لتتحدث حوله وجاء الانترنت ليروي عطشها للبوح والنميمة.

منذ ذلك الحين عبرت حزم هائلة من المعلومات خلال الشبكة العنكبوتية، كثير منها منسوج من الخيال أو مغلوط، وبعضها صحيح انكشف بالوثائق والبراهين. ولشبق الناس بالمعرفة والحصول على المعلومة التي كانت محجوبة أو ممنوعة ازدادت ساعات مكوثهم في منتديات الحوار الإلكترونية، ودخلوا في نقاشات معمقة فكرية واجتماعية وأدبية مثيرة.

ثم أبدعت ثورة المعلومات بتصميم وسائل التواصل الأكثر تفاعلا والأسرع فعليا من البرق كما في العملاقين «الفيس بوك» و«تويتر»، ومواقع مشابهة ستأتي على أثرهما. مع هذين الموقعين تشعر أنك تجلس في صالون واسع يضم كل الأجناس والألوان والطبائع، تستمع إليهم ويبادلونك الاستماع، عالم مفتوح لا حدود له، إنهما من أعظم نتاجات العقل البشري. ولكن كما هو معروف فكلما كانت الإنتاجية البشرية عالية القيمة خبأت في طياتها سلبيات كبيرة تستدعي التحكم فيها بالقوانين والأنظمة.

من هذه الزاوية، ربما لم يوجد في تاريخ الإنسانية مكان للغو وغث الكلام كما في موقعي «فيس بوك» و«تويتر»، لا المقاهي الشعبية ولا صالونات التجميل ولا المصحات العقلية ولا حتى حانات الخمور. قد تقرأ فيهما أعجب وأبشع وأسخف الكلام، وأكثره فجورا وتعديا على الآخرين، ولا تملك إلا أن تشارك برأيك، لا أكثر، أو أن تغلق جهاز الكومبيوتر وتمضي لشأنك. وقد تتمادى الأذية إلى التحريض على قتل المخالفين في الرأي، أو تقمص شخص مجهول لشخصية مشهورة يتكلم بلسانها أمام الناس بغية الإساءة، كلها أمور محتملة، تفيق صباحا لتجد نفسك أحد ضحايا التقنية.

إنها مثل ثورة الطب حينما اخترع آلية زراعة الأعضاء البشرية. كانت نقلة علمية نوعية قدمت خدمة هائلة للمرضى، ولكن في جانبها السيئ استخدمت للمتاجرة بالأعضاء، وحصل في بعض الدول النامية أن دخل مريض إلى غرفة العمليات لإجراء عملية استئصال للمرارة فخرج بكلية واحدة، ولولا القوانين التي تحكمت في هذه الجريمة لكان لكل عضو في جسم الإنسان سعر دولي، وأسواق تباع وتشترى فيها أعضاؤه بالجملة والتجزئة كما تباع البطاطا.

إن التجاوزات التي نشتكي منها في موقعي «فيس بوك» و«تويتر» أو المواقع الإلكترونية الأخرى، هي نتيجة ظاهرة صحية في المقام الأول، فالنقاشات المفتوحة تثري وتنفس وتعزز التواصل، وهي مطلوبة لفهم الآخرين في عالم لم تعد تحكمه الحدود الجغرافية. ولكن حتى نحفظ هذه المزايا من أن تطمر بتهديدها للسلم الاجتماعي لا بد من القوانين التي تحمي وتجرم الاعتداءات.

في المؤسسات الرسمية التي يوجد فيها الناس وجودا حقيقيا وليس افتراضيا، تتولى الإدارات القانونية استقبال الشكاوى والنظر في المنازعات من أطراف معلومة الهوية، وتفصل فيها وفق نظام متفق عليه، وهي التي تعاقب وتردع إن ثبت الجرم، أو تحاسب على الشكاوى الكيدية. أما في عالم الإنترنت فالوضع مختلف، قد تتلقى شخصية طبيعية أو اعتبارية قذفا أو تهديدا من اسم رمزي في «فيس بوك» مثلا، فكيف يمكن أن تحمي نفسها من مجهول؟

هذه ليست مشكلة دولتي السعودية والإمارات الأكثر استخداما لشبكات التواصل الاجتماعية والأعلى نسبة في حصول الجرائم الإلكترونية في المنطقة فقط، ولكنها موجودة في كل بلاد العالم حتى لدى الذين سبقونا بعشرات السنين في الانفتاح وممارسة الحريات، ولكنها أشد تأثيرا لدينا لأن الحريات الوليدة ظهرت في مجتمعات لا يزال جلدها ناعما، تنظر لأي معلومة قد تظهر على أنها فضيحة، وتخشى المكاشفة والشفافية، كما أنها تمنح ثقتها سريعا في كل ما تقع عينها عليه، لا تفند ولا تفحص.

علاج مثل هذه المخاوف ليس صعبا ويمكن استعارته من تجارب الدول السبّاقة، وهو يكمن في ناحيتين؛ الأولى سن القوانين التي تحمي الحريات من المستهترين، وتحمي مستخدم الخدمة، وهذا ما قامت به السعودية منذ أعوام قليلة حين أقرت نظام مكافحة الجرائم الإلكترونية، وأضافت وزارة الداخلية السعودية مؤخرا خدمة على موقعها الإلكتروني للتبليغ عن الإساءات التي قد تلحق مستخدم أي نظام معلوماتي.

لم يعد الإنترنت عالما افتراضيا بعد الآن، لأن تدخل القانون في تنظيم علاقاته نقله إلى عالم الحقيقة؛ اعتقال وتحقيق ومحاكمات وسجون حقيقية. في النرويج مثل أمام المحكمة رجل أصولي استخدم مواقع إلكترونية للتحريض على القتل، ولنفس السبب اعتقل شاب إسرائيلي في القدس، وفي سياتل تحقق الشرطة مع رجل أرسل تهديدا للرئيس أوباما عبر بريده الإلكتروني.

أما العلاج الثاني فهو الزمن. الزمن كفيل بإضافة المزيد من الوعي والنضج لمستخدمي الشبكة العنكبوتية، وهذا ملحوظ، فحينما بدأت المنتديات الإلكترونية في السعودية ودول الخليج كان معظم إن لم يكن كل مستخدميها في ذلك الوقت يختبئون خلف أسماء مستعارة خيفة من عواقب الحرية التي فتح بابها أمامهم فجأة، أما اليوم فالكثير من المغردين في «تويتر»، يبثون همومهم وأفكارهم وأخبارهم بأسمائهم الصريحة ويتحملون مسؤوليتها، ولو شعر هؤلاء أو البقية من أصحاب الأسماء الرمزية أن هناك قانونا مفعلا يلاحق ويحاسب ويعاقب المعتدين، ستتقلص شكاوى الناس وسينعمون بهذا الفتح التقني بلا منغصات، كما هو الحال في الغرب المتحضر.

[email protected]