هشاشة ديمقراطية الطوائف أمام ديكتاتورية الطائفة

TT

الزمان 1960. المكان مطار داكار عاصمة السنغال. كنت الصحافي السوري الوحيد، في عداد وفد صحافي مصري، يضم نجوم الصحافة المصرية. ويقوم بجولة إعلامية باسم صحافة «الجمهورية العربية المتحدة»، في بعض عواصم أوروبا وأفريقيا الغربية.

لم نكد نهبط المطار حتى تقدم نحونا السفير المصري هناك، محاطا بباقة من الشباب المتحمسين وكبار رجال الجالية اللبنانية. كان هؤلاء الشيعة الأشقاء يمسكون باقتصاد أفريقيا الغربية - وربما ما زالوا - لكن الحب قد نأى. كان الحب آنذاك للحبيب الأول: للوحدة العربية. كانوا فخورين بها. فقد كانوا يعتبرون أنفسهم سفراء لها وللعروبة. اليوم، في هذا الزمن الرديء. في زمن العصبيات الطائفية. فقد بات ولاء هؤلاء المغتربين، رضا أو إكراها، لحزب الطائفة.

وتطلعت إلى الصديق إحسان عبد القدوس بنظرة شماتة بريئة. لاحظت ملامح الدهشة مرسومة على وجهه، إزاء هذه التظاهرة الشيعية الرائعة التي لم يكن هو وزملاؤه يتوقعونها. وكان الراحل الكبير ينتهز غيبة أو غفلة موفد مصلحة الاستعلامات المصرية (جهاز المخابرات الصحافية) المرافق لنا، ليلح عليّ بالسؤال الدائم: «أُولّي يا سي غسان. مفيش ثورة في سوريا؟!».

وأعترف بأني كنت أتضايق من السؤال والإلحاح. إنما كصحافي كنت أقدر أن هؤلاء النجوم الكبار خسروا صحفهم. وعربيتهم. وكان عبد الناصر من الذكاء، بحيث احترمهم. غير واقعهم لكن أبقاهم على رأس مؤسساتهم الصحافية المؤممة، وهو يعرف أن ألسنتهم وقلوبهم ضده. وأقلامهم معه.

بدد الترحيب الشيعي العارم بنا الشعور بالكآبة لديّ. فقد كنت أيضا متضايقا من زيارة السنغال. كانت لديّ ذكرى أليمة من السنغاليين. لا أنسى أن الجنود السنغاليين، بطرابيشهم وأحزمتهم الحمراء ارتكبوا مجزرة في دمشق الأربعينات. فقد ذبحوا بسواطيرهم وبلطاتهم المعلقة في خواصرهم حامية مجلس النواب السوري المؤلفة من 45 شرطيا مدنيا. وكانت المجزرة إيذانا بتحرر سوريا من الاحتلال. ولم أكن أعرف أني سأعيش كل هذا العمر، لأشهد مجازر يرتكبها اليوم أبناء من بلدي. مجازر أين من وحشيتها وهولها مجازر الأجنبي؟!

بساطة السنغاليين في وطنهم غيرت رأيي بهم. جلت في داكار. رأيت مشايخها آنذاك يشرحون، في ساحاتها وميادينها، إسلام التسامح لأهلها. دخلت الغابة المحيطة بها. كانت تحية «السلام عليكم» جواز المرور فيها. فقد جاءهم عرب المغرب بالإسلام واللغة العربية. عبر الصحراء. ينتابني اليوم ألم نفسي كبير، فأنا كصحافي وكاتب، مضطر لتوصيف الأسماء والأحداث بمسمياتها. الصحافة لغة الواقع. لا أستطيع تجاهل واقع التمزق الطائفي والعنصري الذي فرضه حزب الطائفة، في كل من سوريا ولبنان، في السنوات الخمسين الأخيرة.

الثورة السورية الراهنة فضحت آيديولوجيا النظام الطائفي المستترة بعروبة زائفة. وبمقاومة صامتة مخادعة للعرب، وللفلسطينيين بالذات. ككاتب سياسي، لا بد من تذكير السوريين واللبنانيين بأن العروبة، كهوية. ولغة. وثقافة. هي الإنقاذ الوحيد لهم. إذا ما عرفوا كيف يسمون فوق الانتماءات الأضيق، بديمقراطية حقيقية متوازنة في الحقوق والواجبات.

عرفت لبنان طفلا زائرا. ثم عرفته صحافيا مقيما. وخبرت مآسيه. تمرست بسياساته. صادقت أو تابعت أبرز ساسته وصحافييه. احترمت تعلق اللبنانيين بحرياتهم الفردية. بجرأتهم. بشطارتهم. بولعهم بالمغامرة. أعجبت بكمال جنبلاط في محاولته تربية جيل شبابي يسمو فوق الطائفية. أحببت صائب سلام في التوفيق بين عروبته. سُنيَّته. لبنانيته. أكبرت في سليم الحص وعفيف الطيبي حيادهما. تعلمت الشيء الكثير من صحافة غسان تويني. ميشال أبي جودة. لويس الحاج. رشدي المعلوف (والد أمين معلوف). أدهشني نصري المعلوف، في توأمته بين شمعونيته وغرامه بشوقي والمتنبي.

عرفت الراحل رفيق الحريري، في لقاء عابر بباريس. ثم تعرفت عليه هاتفيا، في حوارات طويلة. معاتبة حينا. ومصغية للنقد حينا. هذا الرجل في بساطته السياسية المتناهية، دق في مقتله، أول مسمار في نعش النظام العلوي، سواء في احتلاله لبنان، أو تسلطه على سوريا. ثم كان حزني كبيرا، وأنا أرى جيلا شبابيا شيعيا يداري غضبه على زعمائه، وهم يدفنون عروبته وانفتاحه. و«يطيفون» جيلا جديدا. ويسلمونه لحزب الطائفة.

أنتقل من لغة العاطفة إلى لغة السياسة، لأقول إن الخطف ليس غريبا عن «حزب الله» في تنظيمه الهرمي، أو عمله السياسي. أدارت قيادات الحزب، وعشائره وعوائله، حرب الرهائن «المخطوفة» التي سجلت فيها المخابرات الإيرانية نصرا باهرا على المخابرات الغربية، في لبنان الثمانينات.

الخطف عمل بهيمي. بشع. لا أخلاقي، سواء مارسته الدولة. أو النظام. أو الثورة. الحزب الديمقراطي لا يخطف. لا يعتقل. زعيمه لا يخرج من مخبئه، ليزعم أن عشيرته خطفت السوريين لحسابها، وليس لحسابه. الثورة النبيلة لا تخطف أشقاء لبنانيين أو أجانب إيرانيين. إذا كانوا قتلة. مرتزقة، فعلى الثوار تقديم مستمسكات موثقة ضدهم. وليس تقديمهم تلفزيونيا، لإدانة أنفسهم بأنفسهم.

في لبنان دولة. لا ثورة. لكن هشاشة ديمقراطية الطوائف أمام طغيان. وجبروت. وديكتاتورية حزب الطائفة، صحت متأخرة عندما خرج الرئيس ميشال سليمان، عن صمته وموقفه المتردد، ليعتب على «مماليك» حزب الطائفة الحاكم في سوريا الذين حمّلوا سياسيا لبنانيا معروفا متفجرات لنسف بطريرك الموارنة، وإشعال حرب طائفية في عكار وطرابلس. مسكين الرئيس سليمان. كان عليه في دعوته إلى الحوار حول سلاح حزب الله، تقديم مشروع مفصل عن استراتيجية التنسيق الدفاعي والأمني بين الجيش و«المقاومة» الشيعية «المتعطلة» عمليا في الجنوب، وذلك لإحراج حزب الطائفة، وعدم تمكينه من التهرب من حوار مائع.

مسكين الرئيس سليمان! ماذا يفعل بحكومة ميقاتي. فهي أيضا «مخطوفة» لحساب حزب الطائفة الذي اعتدت عشائره وشبيحته على مصداقيتها. شرعيتها. سيادة دولتها. أجهزة أمنها مؤجرة بالتراضي. جهاز للشيعة (الأمن العام) أوكلت إليه الحكومة حل عقدة العشيرة الخاطفة! وجهاز للسنة (قوى الأمن الداخلي) الذي يتهمه حزب الشيعة بـ«خطف» الوزير السابق سماحة.

أين الإعلام في هذه المعمعة الصاخبة السورية/ اللبنانية؟ الثورة السورية المسلحة بحاجة إلى ناطقين إعلاميين لا يتناقضون. ولا يبالغون، في النفي. والتأكيد. إعلام المعارضة السياسية السورية عاجز عن إبلاغ العالم، ببدء بشار هجومه الثاني، بعد فشل هجومه الأول في استعادة حلب والمدن الثائرة. بشار اليوم لا تهمه استعادة الأرض. إنما يهمه تدمير ما عليها من بشر وبناء.

الساسة يتنافسون في الهجوم على الشاشة. هيثم مناع يريد عقد مؤتمر لمعارضة الداخل في دمشق. في حضن النظام! المخضرم حسين العودات عاتب على زميله لخطفه التلفزيون منه. وهيثم المالح ينوي تشكيل حكومة فوق الشجرة في القاهرة.

أين هؤلاء الساسة الإعلاميون، لفضح قمة عدم الانحياز في طهران: كيف تتحدث طهران عن مشروع لحل أزمة بشار، وهي تقول سلفا إنها ستجيش جيشا من المرتزقة، على شاكلة جيش مقتدى، للقتال مع بشار؟ أين السِيَّدا وغليون و«الإخواني» الدروبي، ليسألوا هنية ومرسي وبوتفليقة عما سيقولون في قمة طهران؟ هل يسكتهم أدب الضيافة؟ أم يفضحون «مؤامرة» بشار. نجاد. حسن حزب الله، على ثورة شعبية؟

ديمقراطية الطوائف تجرأت. فسألت «المجلس اللبناني الأعلى للإعلام»، عن استخدام حزب الطائفة للتلفزيونات المستقلة في «التغطية» على العشيرة الخاطفة؟ ماذا كان جواب المجلس المحسوب على نبيه بري «المتوكل» على ديكتاتورية الطائفة في لبنان وسوريا؟ قال إنه سينحاز إلى التلفزيونات، إذا ما هددت ديمقراطية الطوائف حرية العشيرة والطائفة في خطف الشاشة!