أبعد من الحوار في سوريا!

TT

في خطوة رسمية مكررة، صدرت دعوة للحوار بين السلطة ومعارضيها، وهذا ما تضمنته أقوال نائب رئيس الوزراء قدري جميل، وعلي حيدر وزير المصالحة الوطنية، وهي وزارة جرى إحداثها في آخر تشكيل وزاري، قيل إنها تشكيل إصلاحي، تم بموجبه ضم قدري جميل وعلي حيدر إلى الحكومة من خارج إطار «البعث» وتحالفاته التقليدية.

دعوة الحوار الرسمية، التي أكدت رفض الشروط المسبقة من جانب المشاركين في الحوار، تتناغم مع دعوات حلفاء دمشق الأقرب، التي تكررت على لسان مسؤولين روس وإيرانيين وزعيم حزب الله في لبنان حسن نصر الله، وكلها ركزت، كما الدعوة الرسمية، على رفض الشروط المسبقة في إشارة واضحة، تعني استبعاد طرح موضوع الرئاسة السورية قبل بدء الحوار، بل وبعده ضمنا.

فكرة الحوار حول الوضع في سوريا وآفاق حله ليست جديدة، بل هي بدأت مع بداية الأحداث، حيث فتحت حوارات بتسويات متعددة بين السلطة وأطراف معارضة؛ بعضها من المعارضة السياسية وآخرين من المتظاهرين ومن القيادات الأهلية والميدانية في الحراك الشعبي، وتفاوت مستوى ومحتوى وشكل تلك الحوارات، وأغلبها اتخذ شكل جلب المتحاورين المعارضين للتدقيق والتشاور من جانب مسؤولي السلطة وأجهزتها. وفي مستواها، تراوحت بين مستوى الرئاسة وموظفين صغار في الأجهزة أو مبعوثين لها، وكان بين هؤلاء مدنيون وعسكريون ورجال أمن. أما في المحتوى، فإن الأغلب فيها ركز على المطالب التي يرغب المعارضون السياسيون وقادة الحراك تحقيقها، وهي مطالب تتعلق بما يراه النظام من إصلاحات أو احتياجات محلية، وربما شخصية للأشخاص المجلوبين أو المدعوين للحوار، وفي نادر الأحوال، كان موضوع الحوار يصل إلى السياسة بعمقها المطلوب، وكان إذا بلغت ذلك الحد، فإن المحاورين الرسميين إما أن يسدوا آذانهم أو يدخلوا في أحاديث الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد والتحديات التي تواجهها وضرورة أن يتحمل الشعب المسؤولية... إلى آخر ما يقال عادة في حملات الديماغوجيا السورية المعروفة.

إذن ثمة تجربة في الحوار السوري بين السلطة ومعارضيها، هي تجربة عرجاء، بل مشوهة، تمت أغلب فصولها بطريقة الجلب والفرض لا الإقناع، أو تحت تأثير الحاجة المشتركة للحوار، وهي تقوم بين طرفين غير متساويين لا في الموقع ولا في المسؤولية، وغالبا فقد تمت إدارتها بطريقة أمنية هدفها المعلومات، والبحث عن مسارات ممكنة في تفتيت قوة معارضي السلطة من السياسيين وقادة الحراك، أكثر من البحث عن حلول جدية لمشاكل وتحديات كبرى تواجه سوريا والسوريين.

لقد سعى النظام وفي عملية واحدة للقيام بعملية حوار، وهي العملية التي أدارها نائب الرئيس فاروق الشرع في دمشق مع أوساط مقربة من النظام بعد فشله في جلب المعارضة إليها، وتمخضت تلك التجربة رغم مشاكلها الكثيرة عن مقررات وتوصيات، رفضت السلطة الأخذ بها وتنفيذها جميعا، بل وجرى التنكر لتلك النتائج، ثم التهجم بسببها على الشرع نفسه في وقت لاحق.

غير أنه ورغم بؤس فكرة وتجربة السلطة في الحوار وما أحاط بها، فقد ساهمت في كشف جوانب مختلفة في موضوع الحوار، ولا سيما من حيث أهميته وضرورته ومستلزماته، أو ما جرى تسميته ببيئة الحوار، التي تعني ضرورة طرح فكرة الحوار بكل جدية ومسؤولية عبر تحديد أطراف الحوار ومواضيعه ونتائجه، والتأكيد على ضرورة الالتزام بنتائجه والوفاء بها، بل توفير كل الإمكانات المادية والسياسية لأجل ذلك.

لقد ذهبت الأوضاع والتطورات في سوريا وعبر تجربة السلطة في الحوار ومن خلال السياسات الأمنية - العسكرية التي تبناها النظام في مواجهة حراك السوريين وثورتهم، إلى الإضرار الشديد بفكرة الحوار، وجعلها شديدة الصعوبة إلى درجة الاستحالة بفعل ما ألحقته تلك السياسات من قتل وتشريد ودمار شديد للسوريين وممتلكاتهم ومصادر عيشهم، وهو أمر، إذا أضيف إلى فقدان مصداقية السلطات، فإنه يجعل الكلام الرسمي السوري عن الحوار بلا معنى، خاصة أنه يصدر عن مستويات حكومية ضعيفة يمثلها نائب رئيس الوزراء ووزير المصالحة الوطنية وكلاهما من خارج حزب النظام والأبعد عن النواة الصلبة في السلطة.

ورغم ما سبق، فإن تحريك موضوع الحوار من جانب السلطات بالتزامن مع طرح الفكرة من جانب حلفاء النظام الإقليميين والدوليين مع مجيء المبعوث الدولي والعربي إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي، يمكن أن يكون مهما، إذا توافرت بيئة الحوار العملية، التي تتضمن في الأهم من محتوياتها وقف كل العمليات العسكرية والأمنية في أنحاء سوريا، وإطلاق المعتقلين على خلفية الأحداث الجارية، وسحب الجيش إلى مواقعه الأساسية، وإعادة المهجرين الموجودين في المحافظات وفي خارج البلاد إلى مناطقهم، وتسوية عاجلة وجدية لأوضاعهم الحياتية، والقبول بالحوار مع المعارضة بما فيها «الجيش الحر»، وكلها نقاط موجودة في خطة كوفي أنان، التي كان الجميع قد توافقوا عليها، والإضافة الوحيدة في هذا الجانب، هي الإعلان عن أن هدف الحوار تشكيل حكومة انتقالية، مهمتها تهيئة البلاد للانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي عبر مهل زمنية محددة وقريبة وبكل الضمانات، التي تكفل تنفيذ ما يتم التوصل إليه من نتائج.

إن من شأن بدء عملية حوار بهذا المحتوى أو بالقرب منه، توفير فواتير المعاناة الإنسانية والتكاليف البشرية والمادية الكبيرة، التي سوف تتكلفها سوريا في الفترة المقبلة من الصراع وصولا إلى تسويته، بل إن تحقيق عملية كهذه من شأنها إخراج المجتمع الدولي من حيرته في التعامل مع الوضع السوري، حيث أنصار النظام في الإقليم والعالم وخصومه في المستويين، يعانون إرباكات في أشكال ومحتويات ومستويات التعامل مع الوضع.