لندن وروح التفاؤل في الخروج من الركود

TT

مرة أخرى ذهبت إلى شرق لندن لمشاهدة بعض الفعاليات الرياضية المذهلة، حيث شهد، الأسبوع الحالي، بداية منافسات دورة الألعاب البارالمبية لندن 2012، لذا ذهبت إلى هناك للاستمتاع بالأيام الأربعة الأولى للدورة. ولكن الأمر الذي أثار اهتمامي حقيقية هو مدى الالتزام والتفاني الذي أظهره هؤلاء الرياضيون.

تعد مارتين رايت، وهي واحدة من الناجين من تفجيرات 7 يوليو (تموز) عام 2005، أحد الأمثلة المشرقة التي تدل على مدى الشجاعة التي يتمتع بها هؤلاء الرياضيون. فقدت رايت كلتا ساقيها في هذه التفجيرات، ولكنها أصرت على أن لا يتسبب هؤلاء الأشخاص المختلون عقليا في تدمير حياتها، حيث مكنتها روحها القتالية من إعادة بناء حياتها مرة أخرى واللعب في منتخب بريطانيا لكرة الطائرة للمعاقين. هناك مثال آخر جعلني أفكر مليا في الطريقة المثلى للتغلب على التعصب، الذي كان لرياضيين عراقيين يتنافسون بانسجام تام مع رياضيين إسرائيليين.

وخلال اللقاءات التي تجري مع الفائزين بالميداليات في هذه الدورة الأولمبية، دائما ما يكون رد هؤلاء الرياضيين على السؤال الخاص بكيف تمكنوا من تحقيق هذا النجاح هو «العمل الجاد والتصميم». هذا درس لنا جميعا إذا أردنا إعادة تحفيز النمو، حيث تحتاج الحكومات لتبني خطة مالية لتحفيز القطاع الخاص على النجاح من خلال بث الروح القتالية التي من شأنها تتويج العمل الجاد والتصميم.

تعهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بإظهار «الروح القتالية» في الوقت الذي يستعد فيه للإعلان عن سلسلة من التدابير الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي وخفض العجز بنسبة 25 في المائة، والتأكيد للأسواق على أن الحكومة البريطانية جادة في مساعيها لإعادة التوازن للاقتصاد البريطاني. تتمتع بريطانيا بتكاليف اقتراض منخفضة بصورة استثنائية، وهو الأمر الذي ما كان ليصبح ممكنا في حال انضمام بريطانيا للعملة الأوروبية الموحدة. تستفيد بريطانيا كثيرا من وجودها في القارة الأوروبية ولكن من دون أن تكون عضوا في منطقة اليورو، حيث إن هذا الأمر يسمح لها بتبني سياسة مالية مستقلة، وهو الأمر الذي مكنها من أن تكون ملاذا آمنا.

سوف تحدد الحكومة تفاصيل مشاريع الإسكان والبنية التحتية بالتزامن مع عودة البرلمان للانعقاد عقب العطلة الصيفية. من المتوقع أن تقوم الحكومة باستخدام معدلات الفائدة المتدنية في البلاد لضمان ما قيمته 50 مليار جنيه إسترليني من مشاريع التشييد الخاصة بالقطاع بالخاص التي تحتاج إلى تمويل، وذلك في محاولة لتعزيز النمو. سوف تكون هناك فرص كبيرة لأي شخص مشارك في قطاع الإنشاءات وإمدادات مواد البناء. وبالطبع ستتوافر الكثير من فرص العمل الأخرى عند بداية المشاريع الإنشائية الجديدة، حيث ستصب العلاقات الوثيقة بين بريطانيا والشرق الأوسط في مصلحة الطرفين.

ثمة درس آخر تعلمته في الأسبوع الراهن يتمثل في وجود فارق صارخ بين بعض البيانات الاقتصادية وما يحدث في الواقع في الاقتصاد البريطاني. عادة ما يظهر التضارب جليا في تفكير خبراء الاقتصاد، حيث تكون التوقعات قاتمة، في الوقت الذي لا تؤكد فيه الأنشطة الاقتصادية الواقعية بعضا من هذه البيانات الاقتصادية. وفي الوقت الذي يتنبأ فيه خبراء الاقتصاد بحدوث تباطؤ أكبر في الاقتصاد، هناك إشارات إيجابية في بعض الأنشطة الأخرى. أظهرت بيانات السجل العقاري الإنجليزي أن لندن أثبتت مرة أخرى أنها القوة الدافعة وراء الارتفاع المستمر في أسعار المنازل في شهر يوليو (تموز) الماضي بمتوسط زيادة يبلغ 2.7 في المائة، وهو ما يتناقض تماما مع إشارات تباطؤ الاقتصاد.

يعد قطاع الإنشاءات مصدرا آخر للجدل، حيث أخبرني أحد المصرفيين الذي يقوم بتوفير تمويل المعدات أنه في الوقت الذي تظهر فيه الأرقام الرسمية انخفاضا كبيرا في أنشطة البناء والتشييد، لم يشهد المصرف الذي يعمل فيه أي انخفاض في تمويل معدات البناء، وأن معدل الديون المعدومة وصل إلى 30 في المائة فقط من المعدل الذي كانوا يتوقعونه، وهو الأمر الذي يتناقض تماما مع البيانات الاقتصادية الرسمية السيئة.

رصدت صحيفة «سيتي أيه إم»، وهي صحيفة اقتصادية صباحية تصدر في لندن، إحدى النقاط التي قد تغير من اتجاه الدورة الاقتصادية، حيث أكدت الصحيفة أن لندن قد تستضيف بورصة أخرى للمشتقات في ضوء التقارير الصادرة خلال عطلة نهاية الأسبوع الحالية، التي تشير إلى أن مجموعة «سي إم إي غروب»، أو (بورصة شيكاغو التجارية)، تخطط لفتح سوق جديدة لها في أوروبا يقع مقرها في لندن. قد يكون دخول منافس جديد إلى جانب بورصة «نيويورك ليف»، التي تديرها شركة «نيويورك يورونكست» والتي يقع مقرها في لندن، و«يوركس»، التابعة للبورصة الألمانية التي تقع في فرانكفورت، خطوة هامة لتغيير هيكل الصناعة. يذكر أن «هيئة الخدمات المالية» البريطانية لم تقم بمنح أي تراخيص لتشغيل بورصات جديدة منذ أكثر من خمسة أعوام.

ومن بين الأخبار الطيبة التي تم الإعلان عنها في الأسبوع الحالي هو قيام شركة «دبليو بي بي»، وهي الشركة الرائدة عالميا في مجال خدمات الاتصالات والتسويق، بإقرار التغييرات التي أدخلتها الحكومة البريطانية على القواعد الضريبية في الخارج ونقل قاعدة أعمالها إلى بريطانيا مرة أخرى. جعلت هذه التغييرات الحكومية الجديدة من بريطانيا مكانا ترغب الشركات العالمية في العودة إليه مرة أخرى، لأنها صارت مكانا تنافسيا للقيام بالأعمال، حيث زال تماما أي خطر للازدواج الضريبي على أرباح الشركات في الخارج. يعد هذا سببا وجيها للنظر في الاستثمار في قطاع الإسكان والبنية التحتية في بريطانيا، الذي من المتوقع أن يشهد طفرة كبيرة قريبا.

وفي الأسبوع الماضي، أكد اللورد الدرمان ديفيد ووتن، عمدة لندن، أنه بعد الأسابيع الرائعة الماضية في المملكة المتحدة، أظهرت دورة الألعاب الأولمبية لندن 2012 أفضل ما في الشعب الإنجليزي، مع توافد رياضيين من أكثر من 200 دولة على لندن للمنافسة في فعاليات الدورة الأوليمبية. وأشار ووتن إلى أن الإنجليز يبلون بلاء حسنا في الرياضات التي تتطلب التفوق التقني، وهو ما ينطبق أيضا على النهج الذي يتبنونه في العمل. وبالعودة إلى أحد المواضيع التي أقوم بمتابعتها منذ عدة أسابيع، تتمتع بريطانيا العظمى بسمعة كبيرة فيما يتعلق بالمنتجات والخدمات الإبداعية عالية المستوى والقيمة.

تعتبر بريطانيا العظمى موطنا للكثير من الشركات العالمية، التي تشترك جميعها في وجود موظفين ملتزمين وموهوبين ومنتجات عالية الجودة تستطيع اختراق أسواق الصادرات البريطانية بصورة جيدة، ولكنها تواجه بعض المشكلات في الحصول على تمويل. وإذا استطاعت هذه الشركات الاستمرار في النمو وخلق المزيد من فرص العمل، فسوف يتمكن قطاع الخدمات المالية البريطاني من استعادة قوته مرة أخرى. يتطلب تحقيق العمق والنطاق التمويلي الذي تحتاجه الشركات الإنجليزية وجود قطاع خدمات مالية متطور ومرتبط بالعالم. وحتى في ظل الهجمات ذات الدوافع السياسية التي تشنها الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة الأميركية، يعد قطاع الخدمات المالية البريطاني في مرحلة متقدمة من التحول وإعادة التأهيل. وسوف يتمكن القطاع من اجتياز الصعوبات الحالية في بوضعية أفضل وقوة تزداد يوما بعد يوم، فلطالما تمثلت أعظم مواطن القوة في هذا القطاع في قوته وريادته العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الانخفاض الحالي في أسهم المصارف قد يمثل نقطة إيجابية على المدى المتوسط بالنسبة للمستثمرين.

وبالمقارنة باليونان، أدت الالتزامات الخاصة بأجور ومعاشات القطاع العام التي لا يمكن تحملها إلى زيادة الديون في اليونان. وساهم هيكل منطقة اليورو والاتحاد النقدي المتمثل في العملة الموحدة مع غياب اتحاد مالي وفي ظل وجود قواعد مختلفة للضرائب والمعاشات العامة في هذا الأزمة، وأضر كثيرا بقدرة القادة الأوروبيين على التصرف. تمتلك المصارف الأوروبية كمية هائلة من الديون السيادية، حيث تعزز تلك المخاوف الخاصة بالسيولة النقدية للأنظمة المصرفية الديون السيادية من التصورات السليبة بأن هذه المؤسسات تواجه صعوبات جمة.

ومن المتوقع أيضا على نطاق واسع أن تظهر بيانات الأسبوع المقبل مدى الضرر الذي لحق بألمانيا جراء الأزمة التي تضرب منطقة اليورو، حيث تخشى الشركات الألمانية على صادراتها الأوروبية الرئيسية. وبعد ثلاث سنوات من أزمة الديون، شهد الاقتصاد الألماني، أكبر اقتصادات أوروبا، تباطؤا في معدلات النمو في الربع الثاني من عام 2012 يصل إلى 0.3 في المائة، في الوقت الذي زادت فيه سلسلة البيانات القاتمة من احتمالية حدوث انكماش في النصف الثاني من العام الحالي.

ومن المتوقع أن يشهد مؤشر «آي إف أو» لمناخ الأعمال في ألمانيا، وهو المؤشر الأكثر أهمية على قوة الاقتصاد الألماني، تراجعا للشهر الرابع على التوالي، مما يؤكد حدوث تغيير في الاتجاه. يقول رالف سولفين، وهو خبير اقتصادي في مصرف «كوميرتسبنك» الألماني: «من المحتمل أن يشهد الاقتصاد الألماني تراجعا طفيفا في النصف الثاني من العام الحالي، ولكن لا يبدو أن أزمة الديون تسبب مشكلة بالنسبة للشركات الألمانية على المدى الطويل».

وتماما مثل بريطانيا، تدرك ألمانيا جيدا أن الحل الأمثل لتحفيز النمو يكمن في العمل الجاد والتصميم، في حين لا تزال بعض البلدان الأخرى في منطقة اليورو غير واعية لهذا الأمر بعد. وبالإضافة إلى ذلك، فحقيقة أن بريطانيا تعد ملاذا آمنا لا ترجع فقط إلى سنداتها الحكومية، وإنما أيضا إلى قوة القطاع الخاص ومدى انفتاحها على الاستثمار من البلدان الأخرى. لم يكن هناك وقت لتعزيز الروابط بين بريطانيا والشرق الأوسط أفضل من الوقت الحالي على الإطلاق.

* أستاذ زائر في كلية إدارة الأعمال بجامعة «لندن ميتروبوليتان» ورئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال»