شهر التراجم في البحرين

TT

عدت للتو من البحرين بعد أن شاركت إلى جانب الدكتور جان جبور في ندوة مصغرة عن الترجمة وأهميتها بالنسبة للثقافة العربية ككل. قلت «مصغرة» لأنها كانت مكثفة على ما أعتقد ومحصورة بمجموعة محددة من مثقفي البحرين ومثقفاتها. بل وحتى الملحق الثقافي السعودي كان حاضرا وقد شارك في النقاش. كانت عبارة عن جلسة حميمية شبه عائلية تمت في أرجاء المتحف الوطني الرحبة التي تحتضنك احتضانا. وما كان ذلك ليحصل لولا الأجواء الحرة المريحة التي تؤمنها لك وزارة الثقافة، وعلى رأسها الشيخة مي؛ لؤلؤة البحرين!

أعتقد أني تحدثت بحرية كما لو أني في بيتي. هل تجاوزنا الخطوط الحمراء أو الصفراء أحيانا؟ ربما. ولكن لم أشعر بأن أحدا أحس بالانزعاج أو صدم. الصدور مفتوحة لكل الطروحات بشرط أن تكون عرضة للنقاش، وألا تفرض عليك بشكل إملائي ديكتاتوري من فوق. الجميع كانوا منخرطين في الحوار وهدفهم الوحيد استجلاء الحقيقة وتوضيح الإشكاليات. كلنا في الهم شرق.. كلنا حائرون نبحث عن حل أو خلاص.

تذكرت أني مترجم مخضرم لا يزال يمارس هذه المهنة منذ أكثر من ثلاثين سنة متواصلة. ولذلك أحببت أن أتحدث عن تجربتي الشخصية كباحث نقل إلى العربية فكر واحد من أعظم المفكرين في تاريخ الإسلام على مر العصور.. وأكثر شيء يزعجني لدى المثقفين العرب، أو بعضهم على الأقل، هو اعتبار الترجمة عملية ثانوية محصورة في كتاب الدرجة الثانية أو الثالثة. أما هم فلا ينزلون إلى هذا المستوى ولا يضيعون وقتهم في مثل هذه الفعاليات الهامشية التي لا تليق بالمبدعين الكبار! كل حرف يكتبونه نازل من السماء، أو مخترع اختراعا من بنات أفكارهم، أو هكذا يتوهمون. تذكرت أن فولتير كان مترجما ولا يحلف إلا باسم مفكري الإنجليز وبالأخص جون لوك وإسحاق نيوتن. كان يريد أن ينقل الأفكار الإنجليزية إلى فرنسا لكي ينورها ويخرجها من ظلام دامس. تذكرت أن ديدرو أدخل فرنسا في الحضارة، عندما قال: سوف أنقل إلى اللغة الفرنسية كل المستجدات التي طرأت على العلم والفلسفة في القرون الأخيرة. لماذا يسبقنا الإنجليز على درب الحقيقة والكشوفات المعرفية؟ وعلى هذا النحو أسس الموسوعة الشهيرة أو «الإنسيكلوبيديا».

حفنة من المثقفين المصممين في قلب باريس دشنوا نهضة فرنسا. وهذا يعني أن التغيير الفكري سبق التغيير السياسي أو مهد له الطريق. والواقع أن كل النهضات الكبرى في التاريخ قامت على أكتاف الترجمات الكبرى. ولكن الترجمة هنا، كما حاولت أن أشرح في الندوة، لا تقتصر فقط على الترجمة بالمعنى الحرفي للكلمة. وإنما تعني أيضا التلخيصات والشروحات والتهميشات.. إلخ. إنها الترجمة بالمعنى الواسع والضيق للكلمة. فمثلا ديكارت توجد حوله مكتبة كاملة ليس فقط في اللغة الفرنسية، وإنما في الإنجليزية أيضا والألمانية وسواهما. وقل الأمر ذاته عن بقية المفكرين الكبار. ذكرت أيضا أن جان هيبوليت أحد كبار أساتذة الجامعة الفرنسية أمضى عمره تقريبا في ترجمة رائعة هيغل: علم تجليات الروح والفكر عبر العصور، أو «فينومينولوجيا الروح». لقد أتقن شرحها وفهمها والتعليق عليها إلى درجة أن المثقفين الألمان راحوا يستشيرون الترجمة الفرنسية لكي يفهموا النص الألماني! من يصدق ذلك؟! هذه هي الترجمة بالمعنى الرائع والحقيقي للكلمة. إنها بحث علمي مضن، واختراع وإبداع. إنها انصهار في النص المترجم. إنها العلم الذي إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.

لو لم يترجم العرب فلسفة اليونان وعلومهم لما كان العصر الذهبي. ولو لم يترجم الأوروبيون في القرون الوسطى علوم العرب وفلسفتهم لما كانت النهضة الأوروبية. ولو لم تترجم سلالة الميجي، أي الحكم المستنير، علوم أوروبا الحديثة لما كانت نهضة اليابان التي أدهشت العالم لأنها تمت بسرعة قياسية. وقس على ذلك كثيرا.. كل الأمم تترجم عن بعضها البعض وتستفيد من بعضها البعض. وعموما فالمتأخر يأخذ عن المتقدم. وإذا ما كابر ورفض الأخذ، فإنه يضر حاله فقط، ويظل متخلفا إلى أبد الدهر.

بالطبع نقصد الترجمة هنا بالمعنى الأخلاقي للكلمة، وليس الترجمة المتسرعة أو المغشوشة. فهذه قد تؤدي إلى تشويه أجيال بأسرها من الطلبة العرب بدلا من أن تثقفهم وتنورهم وتفتح لهم الطريق. من هنا خطورة الترجمة. فهي سلاح ذو حدين.. إدخال أطعمة مسمومة إلى العالم العربي قد لا يزيد فداحة عن إدخال ترجمات مغلوطة. تسميم العقل وتسميم الجسد سيان. بل إن تسميم العقل أخطر. ويزعم كاتب هذه السطور أن الفتوحات العلمية والفلسفية بل وحتى اللاهوتية الكبرى التي حققتها أوروبا في أكبر مغامرة خلاقة شهدها الفكر البشري غير معروفة حتى الآن في اللغة العربية. أليس ذلك شيئا مقلقا؟ اللغة العربية ذاتها مهددة إذا لم ينجح مشروع الترجمة بالمعنى الذي نقصده.

في آخر يوم أتيح لنا أن نشهد افتتاح مهرجان «تاء الشباب» من قبل وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة. وقد دعي كذلك لأنه يحمل الشعار التالي المفتتح دائما بحرف التاء: «تفكير، تجسيد، تحديث». وقد فوجئنا بالإبداعات المتنوعة لشباب البحرين وشاباتها؛ من غناء وشعر ومسرح وموسيقى ورقص وفكر.. وما أكثر الشعراء والشاعرات في البحرين! ما أكثر الجمال! حقا إن الشعر ديوان العرب. لقد تحول شارع بأكمله في العاصمة البحرينية إلى مركز للإبداع الخلاق في الهواء الطلق.. كنت تشعر أحيانا بالدوخة من عبق المكان. كان الجو شاعريا محببا بامتياز، وكانت صور كبار شعراء العرب ومفكريهم تتراقص على أحد الجدران بطريقة فنية رائعة تذكرك بوحدة هذه الأمة روحيا وثقافيا، وهكذا جسدت «المنامة» في شخصها، ولو للحظة، كل العرب.

في زمن الانفجارات الحالية والانهيارات المتسارعة قد يبدو هذا الكلام سرابا في سراب. ولم لا؟ فأنا أعشق السراب. ولا أعرف لماذا لم أقع حتى الآن في حب امرأة اسمها سراب! فحتى لو كان الحب سرابا، حتى لو لم يؤدّ إلى أي نتيجة، فإنه يظل أجمل شيء في الوجود. معظم قصص الحب الكبرى في التاريخ كانت فاشلة أو مستحيلة. ولكن هي وحدها التي فجرت الطاقات الإبداعية وظلت خالدة على جبين الدهر. المهم كنت تشعر أحيانا بأنك ارتفعت من الواقع إلى ما فوق الواقع، وانتقلت فجأة من عصر الجاهلية إلى ما بعد الحداثة.. هل أنا في عوالم سريالية باريسية؟ أم في عوالم شهرزاد وألف ليلة وليلة؟ أين أنا؟ لولا أن الوزيرة كانت أمامنا لخفت على نفسي من الضياع..

إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا

كفى لمطايانا بوجهك هاديا