رحمها الله حية أو ميتة

TT

التقيته في مناسبة اجتماعية، فعزمني في اليوم التالي على العشاء في أحد المطاعم، فلبيت دعوته حالا من دون تردد، حيث إنه إنسان كريم وأنا أستحق كرمه.

ووصلت، فوجدته جالسا ينتظرني، وقبل أن نشرع في قراءة قائمة الطلبات، أخذت أتجاذب أطراف الحديث معه، وعن ذكرياته في أميركا، حيث إنه قضى ردحا من الزمن فيها، سواء في مجال الدراسة أو العمل.

ففتح لي قلبه وحكى بعض الحوادث والمواقف المشوقة التي تستعصي على النشر، وقد لا يروقه هو نشري لها مع أنه يروق لي أنا جدا، ولكن (ما باليد حيلة).

وسوف أختار لكم واحدة منها مما لا تتعارض مع الذوق العام، فقد قال:

كنت جالسا يوما في أحد المقاهي وقت الظهيرة في مدينة صغيرة، ولفت نظري من أول ما جلست جلبة أصوات وطلبات غريبة، ليس من مائدة واحدة ولكن من سائر الموائد، فأخذت أركز سمعي وتناهت لي الأصوات بالتتابع تنادي وتطلب من (الغرسون).

- أعطني كوبا من (الجعة)، وواحدا لـ(فيولا).

- أعطني كوبا من القهوة، وواحدا لفيولا.

- أعطني واحد (سكرودرايفر) وواحدا لفيولا.

- أعطني سندويتش (متسوريلا)، وواحدا لفيولا.

- أعطني (تورتة تفاح)، وواحدة لفيولا.

وتوالت الطلبات التي أثارت دهشتي، فما كان مني إلا أن أسأل الغرسون عن ماهية (فيولا) هذه التي يتردد اسمها مع كل طلب، ويتنافس الجميع على تقديم الطلبات لها؟!

فقال: «إنها مسز فيولا (داليم) - المدرّسة التي ترقد الآن في المستشفى استعدادا لتركيب قدمين صناعيتين لها، فقد حدث أثناء هبوب العاصفة الثلجية في العام الماضي أن سارت تتعثر وتزحف على يديها وقدميها مسافة ثلاثة أميال لتساعد أطفال مدرستها الذين فاجأتهم العاصفة في سيارة المدرسة المعطلة ولم يستطع السائق أن يتحرك من شدة البرد والرعب، فانطلقت هي بكل شجاعة، مما أدى إلى تجمد ساقيها واضطر الأطباء لبترهما في ما بعد، ولو لم تقدم هي على فعل ذلك لمات الأطفال متجمدين. وقد اتفق أهالي البلدة على أن يتبرع كل منهم بثمن طلب مماثل لما يطلبه في المقهى ليخصص لثمن القدمين الصناعيتين اللتين سيتم وضعهما لمسز فيولا، وعندما يطلب أي زبون شيئا لفيولا، فإننا نضيف قيمة طلبه إلى حساب هذه التبرعات».

لا شك أنني تأثرت بما حكاه لي، وذلك في ما يخص شجاعة (فيولا)، والموقف النبيل لكل من كان في القهوة.

وبعد أن ران علينا صمت غير طويل، استغللتها فرصة للنظر لقدميَّ وتحريكهما لأتأكد أنهما ما زالتا بحوزتي، وعندما تأكدت من ذلك، تنهدت قائلا: أحمدك يا رب.

وقطع عليّ صمتي رفيقي الكريم قائلا: ماذا تطلب؟! فرفعت رأسي (للنادل) قائلا: لو سمحت، أعطني واحد (سكلوب بانيه)، وواحدا آخر (لفيولا). تعجب المسكين من طلبي معتقدا أنني أهزأ به، وعندما لاحظت امتعاض وجهه، نظرت إلى رفيقي قائلا له: اشرح له.

هدأ عليه واعتبرناها مزحة وذهب وأتى بطلباتنا، عندها قال لي: الموضوع هذا مضى عليه أكثر من ثلاثة عقود، والله هو العالم أين تكون الآن (فيولا)، هل هي فوق التراب أم تحته؟!

قلت له: رحمها الله، سواء كانت فوق التراب أو تحته.

[email protected]