عدم الانحياز في طهران

TT

الدبلوماسية الدولية لها طريقتها في الإبقاء على منظمات وتقاليد حتى عندما تنتفي الحاجة إليها؛ بل إن الظرف التاريخي الذي أدى إلى مولدها لم يعد له وجود؛ وأكثر من ذلك فإن من أسسوها تغيروا كثيرا والمقبلين الجدد إليها لا يعرفون ما هو أصل وفصل الحكاية. حركة عدم الانحياز واحدة من تلك القصص الدولية التي تتحرك بقوة الدفع الذاتي، ولا يهم مدى حاجة أعضائها إلى لقاء أو أي هدف سيتم تحقيقه، ولن يعدم كتاب خطب الرؤساء أن يجدوا أسبابا جوهرية للقمة وتلاقي الزعماء والقادة فذلك في حد ذاته مكسب، فمن يعرف ما هي نتيجة التقاء خصوم أو عندما تحتك أكتاف ببعضها، أو عندما يجلس رئيس وآخر على مائدة طعام. ولذلك من النادر دائما أن يبحث أحد فيما جرى بين لقاء ولقاء جديد أو بين قمة وأخرى، فلا يوجد لدى أحد ما يمنع أن يبدأ الجميع القصة من أولها.

بالنسبة لجيلنا الذي عرف بجيل الخمسينات والستينات من القرن الماضي فإن حركة عدم الانحياز كانت واحدة من العلامات البارزة التي تولدت عن تحرر المستعمرات وظهور دول جديدة على المسرح الدولي.

كانت الحرب الباردة على أشدها ضاغطة على دول لا تزال رخوة العود، واختار بعضها فورا الالتحاق بالمعسكر الاشتراكي أو الرأسمالي لأسباب اقتصادية أو استراتيجية، ولكن الشعور بالتبعية جعل هؤلاء يشعرون دوما بضغوط معنوية ونفسية فما كان الاستقلال والتضحيات التي بذلت فيه لكي ينتهي بالدوران في أفلاك لا يملك الصغير والمستعمر سابقا أيا من مقاديرها. وهنا جاءت الفكرة، أولا فيما عرف بالحياد الإيجابي بين المعسكرين في أعقاب مؤتمر باندونغ عام 1955، أي لا تكتفي الدول المستقلة حديثا بدور الحياد السلبي مثل سويسرا، بل تلعب دورا إيجابيا في تخفيف حدة التوتر الدولي بين المعسكرين، فطالما أننا نعيش في كوكب واحد، فإن اللعب بالسلاح النووي لن تقتصر نتائجه على المعسكرين المتنافسين.

كانت تلك أفكار نهرو وعبد الناصر وتيتو، أو الهند ومصر ويوغوسلافيا، ومن بعدهم لحقت دول كثيرة حتى تلك التي كانت واقعة في قلب واحد من المعسكرات، ولكن حركة عدم الانحياز باتت تمثل خيارا ثالثا، وواحدة من وسائل «غسل التبعية» لدى قيادات وطنية في دول كثيرة. وهكذا توسعت الحركة ودخلت فيها معظم دول العالم الثالث حتى بعدما ذهبت قيادات وطنية شهيرة، وجرت انقلابات على أخرى، وتفككت ثالثة، وحتى عندما انتهت الحرب الباردة وسقط الاتحاد السوفياتي ومعسكره، وتفككت يوغوسلافيا نفسها إلى دول كثيرة، وعلى الرغم من سعي الهند لكي تكون قوة عظمى في حد ذاتها، فإن هذا السعي وضعها في المعسكر الغربي حيث الأسواق والتقدم التكنولوجي، أما مصر فقد عقدت معاهدة سلام مع إسرائيل وأصبحت ذات علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة. وربما كان الأخطر من ذلك كله أن العالم بات يعرف منظمات عالمية أكثر فعالية وتدور حول أهداف معروفة ومحددة مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم الدول الصناعية، ومجموعة الثماني للدول الكبرى المستحوذة على القسط الأعظم من الاقتصاد العالمي.

رغم كل ذلك بقيت حركة عدم الانحياز على حالها، تعقد قمتها بطريقة دورية، وتتسلم قيادتها دولة ومن ورائها الأخرى، وكان آخر من انعقد له لواء الحركة مصر تحت قيادة حسني مبارك. والآن جاء وقت إيران وطهران العاصمة لكي تنعقد القمة الجديدة في إطار مختلف تماما من الناحية التاريخية عما كان عليه الحال في كل المرات السابقة. لم يكن هناك جديد في المؤتمر نفسه، فقد انعقد وجاء قادة، ومن هم أقل من القادة، ولكن المؤتمر انعقد أيا كانت مكانة الحاضرين. ولكن الإطار السياسي بالتأكيد كان مختلفا عن كل القمم المملة السابقة التي كانت أشبه بمن يذهب إلى الحج بينما الحجيج قد عادوا من حجهم. فإيران واحدة من أطراف الصراع الدولي الحالي، قد يرى البعض أن بعضا من الحرب الباردة لا يزال مستمرا بسبب التوترات بين روسيا والولايات المتحدة، ولكن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، وهناك فارق ما بين خصومة حياة أو موت أو تعارضات واختلافات في المصالح، يواكبها أشكال كثيرة من التعاون. والحديث عن قطبية ثنائية بين الولايات المتحدة والصين لا يزال في رحم الغيب. ولكن إيران طرف في صراع يجمع الحرب الباردة بين طرفين دوليين حيث يقع على الطرف الآخر الولايات المتحدة وإسرائيل ومن ورائهما الغرب في عملية كسر عظام من خلال المقاطعة والحصار والضغط؛ والحرب الساخنة التي يعد كل طرف لها وكأنها سوف تجري في صباح الغد. إيران ليست في حالة عدم انحياز، أو حياد إيجابي، أو البحث في العالم عن أهداف نبيلة، وإنما هي في محطة كسر عظام ثقيلة لم يكن يدري الحاضرون في طهران كيف يتعاملون معها سوى نداءات عن الاستخدام السلمي للطاقة النووية.

في مثل هذه الحالة من التوتر ظهرت مصر مرة أخرى وهي في ثوب جديد. وطوال العقود القليلة الماضية لم تكن مصر تتعامل مع حركة عدم الانحياز إلا كواجب ثقيل حتمته ظروف تاريخية، وعرفان بالجميل لدول وقفت إلى جانب مصر في لحظات صعبة، وهي جزء من تحالف دبلوماسي تستخدمه أحيانا عندما يحل جديد حول القضية الفلسطينية أو تطبيق معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية على إسرائيل. أصبح ذلك بعيدا أيضا هذه الأيام، ولكن الجديد كان الثورة المصرية، وما أفضت إليه من انتخابات ديمقراطية جاءت برئيس ينتمي إلى حركة الإخوان المسلمين. الحالة المصرية هنا لا تزال في بواكير أيامها، وهي لم تعد حالة براغماتية تتحرك حسب الظروف والتوازنات الموجودة كما كان الحال في عهد مبارك، ولكنها الآن خليط ما بين الدوافع الأيديولوجية، وثبات الدولة المصرية واستمرارية توجهاتها الخارجية.

الفرز هنا لم يأتِ بعد، ومن ثم كانت الدولة المستدامة التي وضعت خريطة حركة الرئيس مرسي في طريقه إلى المؤتمر. كان الذهاب ضروريا لأن هكذا تقضي الضرورات الدبلوماسية للدولة الممسكة بمقعد الرئاسة؛ وكان الذهاب إلى طهران لا يقل ضرورة لأن أحدا لا ينبغي أن يملي على الدولة ما تفعله في حركة أسستها. ولكن المصالح المصرية باقية، فالزيارة أربع ساعات فقط منها لقاء مع أحمدي نجاد قدره 40 دقيقة، رمزية في الوقت المخصص ولكنها قوية في الرسالة. فلم يكن ممكنا استبعاد ناصر المؤسس وهو واحد من أرصدة الدولة المصرية أيا كانت العلاقة الدامية بين هذه الدولة وحركة الإخوان المسلمين. وكانت القضية السورية حاضرة بقوة لوضع خطوط الاختلاف واضحة بين مصر وإيران حتى يعرف الناس في الغرب والخليج أن الحضور لدول وليس لثورات إسلامية. وأخيرا كان الثناء على آل البيت، ولكن مصر في النهاية سنية، ومن ثم كان وضع مصر في المعسكر الذي كانت فيه في العهد السابق. كانت الدولة المصرية هي التي تمارس سياستها الخارجية في مؤتمر تقليدي.