إيران.. غلطة استراتيجية!

TT

بمعايير الإسلام، ترتكب جمهورية إيران الإسلامية غلطة استراتيجية تتجلى في الدعم الذي تقدمه لنظام سوري استبدادي يقتل مسلمين أبرياء لا ذنب لهم غير المطالبة بما أمرهم الله بامتلاكه: حريتهم وحقهم في الحياة الكريمة، ويدمر دولة يفترض بحكامها أن يتدبروا شؤون مواطنيها بما هم مجتمع إسلامي، لما فيه خيرهم وازدهارهم.

وبمعايير السياسة، ليس من حق إيران التدخل في شؤون بلد مستقل هو سوريا، يقاتل نظامه شعبه، علما بأن تدخلها يتم ضد إرادة أبنائه فضلا عن أنه ينتهك القانون الدولي والأعراف الإنسانية والأخلاقية، ويقوض تاريخا طويلا من احترام حقوق البشر في الحياة والحرية، التي قررها الإسلام قبل أن يقرها أي قانون أو عرف وضعي في العالم الحديث.

وكان الإسلام قد ترك ثروة استراتيجية من طراز فريد تاريخيا، حين أقام مجالا موحدا دينيا وثقافيا ولغويا وسياسيا واقتصاديا وشعوريا ضم المسلمين جميعهم، عربا وعجما، ممن تبادلوا داخله ليس فقط المنافع، بل كذلك الحماية والرعاية، فكان هذا المجال الذي تساوت مكانتهم فيه وترسخت بفضله، أول فضاء استراتيجي كوني قام على وحدة المشاعر والأهداف والقيم والمصالح، وخلا من القسر والتمييز، لذلك انفتحت أجزاؤه بعضها على بعض، فكان المسلم يعيش ويعمل فيه حيث يريد، وينتقل داخله كما يريد، ويعتبر نفسه معنيا بمصيره باعتباره شأنه الشخصي الخاص، لذلك جاء من إندونيسيا للدفاع عن القدس ضد الفرنجة أو ليحررها، وقاتل على أسوار مدن لم يكن من سكانها دون أن يدعوه أحد إلى القتال في سبيلها... إلخ. وكان من الأمور المسلّم بها أن لا يدخل أي جزء من هذا الفضاء الاستراتيجي في خلاف أو صراع مع أي جزء أو أية أجزاء أخرى منه، لأن ذلك كان خارج إطار ما يمكن التفكير فيه أو قبوله. وبما أن الأمة كانت جسدا واحدا يصيب الألم جميع أطرافه إن نزلت نازلة أو وقعت واقعة بأي منها، فإن ضربا من سلام أبدي ساد هذا الكيان الكوني، الذي اعتبر كل مكان فيه نفسه رباطا يحمي بقية مكوناته. وللعلم، فقد استمر هذا الوضع لفترة طويلة جعلته وضعا طبيعيا شعر أي منتم إلى عالم الإسلام بالغضب والرفض حيال أي خلاف بين أجزائه، ورأى في نزعاتها المحلية أو القومية ظواهر برانية لا يجوز أن تفضي إلى تفكيك وحدته أو إضعافها، فإن فعلت ذلك أو أفضت إليه أدانها ونفر منها ورأى فيها نفوذا أجنبيا أو تبعية لأجانب ما، أو خيانة.

... ولعلم من لا يعلم من قادة إيران، فإن الإسلام يعتبر الأمة مصدر الشرعية السياسية ونظم الحكم، ويلزم قادتها بطاعة الأمة، وبوضع أنفسهم تحت تصرفها وفي خدمتها، حتى إن العرب كانت تقدم تعريفا للسياسة يرى فيها تدبيرا ينصب على الشأن العام، على إدارة شؤون الجماعة بموافقتها واستشارتها، ما دام كل ما يصيب الأمة بالضرر مخالفا للدين وللسياسة كتدبير تملي تعاليم الدين أسسه ومفرداته، التي تجعل الأمة مصدر أية سلطة.

بعد هاتين المقدمتين: هل تحمي سياسات إيران المنحازة لنظام يقتل السوريين، الذين هم جزء من كيان أمة المسلمين، هذا الكيان الاستراتيجي وإرثه التاريخي أم هي تقوضهما وتلحق بهما ضررا لا يقبل الإصلاح؟ في الماضي، أدنت الحرب العراقية الإيرانية انطلاقا من هذا المعيار: لأنها نشبت في حاضنة الكيان الاستراتيجي وهددت بتقويض ركنه الإيراني/ العربي في تماسه التاريخي الغني والمبدع، وبالتالي بكشف إيران عربيا والعرب إيرانيا، وبطي صفحة كيان لطالما لعب دورا هائلا في ماضي المسلمين وقدم حماية متكاملة لهم. هل تخدم سياسة إيران، الموجهة اليوم ضد مسلمي سوريا، الذين يرفضون نظاما هم مصدر شرعيته، هذا الإرث التاريخي أم تدمره؟ أعتقد أنها تقوضه وتهدد بتدميره، ليس فقط لأنها تعتبر النظام مقاوما والشعب متآمرا عليه، بل كذلك لأنها تفتح ثغرة في جدار تاريخي منيع يمكن أن تتسلل من خلالها قوى قاتلة تضر اليوم بالعرب وغدا بإيران، وتسمح باختراق الكيان الاستراتيجي الذي بذل أعداؤه التاريخيون جهودا هائلة لتفكيكه، وتساعدهم إيران اليوم على تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه، علما بأنها ستكون هي نفسها غدا من ضحايا ما تفعله يداها اليوم في سوريا، فلا أقل من أن تتوقف وتعمل لوقف تهديم دولتها ومجتمعها بيد نظامها «المقاوم»، لا سيما أنهما حاملا الكيان، بينما سلطتها الظالمة عدوة له تتلاعب بمصيره وتدمر ركائزه وتفتح أبواب الحصن الاستراتيجي بإسقاط شعبه ودولته من حسابات القوة والمقاومة في كامل المنطقة العربية وما وراءها من إقليم. تكسر إيران اليوم الغلاف الواقي الذي غطى الإسلام من خلاله جسد الأمة المسلمة الموحد، وتكشف نفسها عبر كشفه، فهل يدرك قادة إيران ذلك ويتوقفون قبل فوات الأوان، أم يواصلون دعم نظام غير شرعي، استبد بشعبه وقتله لمجرد أنه طالب بحقوقه (والاستبداد والقتل مدانان في الإسلام)، باسم ممانعة كاذبة لا يلاحظها أحد من السوريين ولا أثر لها في تاريخ سوريا الحديث؟ ولو كانت جدية لما كان الجولان محتلا منذ نيف وخمسة وأربعين عاما، ولما كان منذ احتلاله أكثر مناطق الأرض العربية المحتلة في فلسطين وخارجها أمنا بالنسبة إلى المستوطنين الصهاينة، ولما جافت هذه الممانعة الروح الوطنية وقتلتها ووضعت جيش سوريا في مواجهة شعبها، ونقلت الحرب إلى داخلها، وجعلت عدوها المواطن لا الصهيوني المحتل!

تتخطى أخطاء إيران السياسة المباشرة إلى الاستراتيجية العليا، وتخترق الحاضر إلى الماضي وتترك آثارا مدمرة بالنسبة إلى المستقبل، فمن الضروري أن تبادر إلى إصلاح خطئها على المستوى الاستراتيجي، الذي جعل من الأمة الإسلامية مجالا استراتيجيا واحدا لا يجوز السماح بتدمير أحد مكوناته بأية ذريعة كانت، وأقام كيانا إسلاميا يجب أن نرى السياسة والشرعية السياسية بدلالته وليس العكس، مثلما تفعل إيران اليوم في واحد من أفدح أخطائها وأكثرها سلبية على الإطلاق.

هل تصحح طهران غلطتها قبل فوات الأوان، أم تواصل نهجا يرمي إلى السيطرة على العالم العربي ويدعم النظام السوري باسم الإسلام، دين العرب الذي حملوه إلى كل مكان، ومن غير المعقول أو المقبول أن يغطي اليوم مصالح قومية إيرانية موجهة ضدهم، وأن يصدقوا ما تحاول طهران تمريره عليهم، دون أن يستخلصوا من مواقفها وسلوكها المخالف للدين والدنيا النتائج التي تتكفل بحمايتهم وصيانة وحدة الإسلام الاستراتيجية والرابطة الكيانية مع شعب إيران المسلم!