الإسلام في قفص الاتهام

TT

أصبح من المعتاد أن يقحم الإسلام في النقاش والجدل بطريقة أو بأخرى كلما وقع عمل إرهابي في أي مكان بالعالم، أو فلنقل في معظم الأعمال الإرهابية لكي نكون أكثر دقة. يحدث هذا الأمر حتى ولو لم يكن الفاعل مسلما، لأن أصابع الاتهام والشكوك باتت توجه بطريقة تلقائية نحو المسلمين، حتى قبل أن تتضح هوية الجاني وتعرف دوافعه. الأمثلة على ذلك كثيرة ولا حاجة لذكرها لأنها ليست بعيدة عن الأذهان، لكن مناسبة الحديث هنا هي قضية الإرهابي النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك الذي صدر الحكم بسجنه قبل أيام بعد محاكمة استمرت ثلاثة عشر شهرا تقريبا أثير خلالها الكثير من النقاش والجدل. فهذه القضية هي النموذج الأحدث على خطورة النقاش المنحرف عن الإسلام والمسلمين، والكتابات والتصريحات التي تنشر أجواء العداء والكراهية ويتغذى منها المتطرفون وأصحاب الغرض.

بريفيك الذي ارتكب مجزرة بشعة راح ضحيتها 77 من الأبرياء، ومعظمهم كانوا من الشباب الذين شاءت الأقدار أن يوجدوا في المكان الذي اختاره هذا القاتل المنحرف لتنفيذ جريمته، سلط الأضواء على تنامي أفكار التطرف والعنصرية ضد المهاجرين المسلمين، وما يمكن أن يحدث نتيجة الربط المستمر بين الإسلام والإرهاب بكل ما يحويه هذا الربط من تعميم مخل، وتفكير جائر بحق الغالبية العظمى من معتنقي ديانة من أكبر ديانات العالم. ومثلما أشرت في مقال الأسبوع الماضي فقد اتضح هذا الأمر منذ التكهنات الأولى التي أعقبت العملية، عندما اتجهت الشكوك فورا نحو وجهة باتت تقليدا متبعا في معظم الأعمال الإرهابية، وهي التكهن بأن يكون الأمر مرتبطا بما يسمى بـ«الإرهاب الإسلامي»، وهي تسمية تجعل الإرهاب يبدو وكأنه ظاهرة مرتبطة بالإسلام وحده، وكأنه لا يوجد إرهابيون من ديانات أخرى. خطورة هذا الربط ونتائجه اتضحت خلال اعترافات بريفيك ثم محاكمته، إذ تبين أنه ينتمي إلى تيار متطرف يتغذى من أجواء العداء للإسلام وللمهاجرين المسلمين خصوصا في أوروبا حيث ينمو تيار لا يستهان به من العنصريين الذين يروجون لنظرية أن الإسلام خطر زاحف يجب التصدي له ووقفه، و«طرد» المهاجرين المسلمين وإنهاء ما يسمى بـ«الثقافات الموازية» التي يقولون إنها تريد فرض أفكارها وتقاليدها وترفض الاندماج.

فالإرهابي النرويجي أعلن أنه نفذ عمليته، التي بدا فخورا بها وغير نادم إلا لكونه لم يحصد عددا أكبر من الضحايا، لأنه أراد إيقاظ بلاده وأوروبا «للخطر الإسلامي» الذي يهدد الحضارة الغربية. وحتى لا يترك مجالا لأي شك حول دوافعه فقد أرسل لعدد من وسائل الإعلام في يوم تنفيذه لعمليته بيانا من 1500 صفحة تحت عنوان «إعلان أوروبي للاستقلال» ضمنه أفكاره الكارهة للإسلام وللمهاجرين المسلمين الذين طالب بترحيلهم «حفاظا على الهوية الأوروبية»، و«دفاعا عن الحضارة الغربية». وعن أسبابه لاختيار أهدافه سواء بتفجير شحنة متفجرات في منطقة المجمع الحكومي في أوسلو، أو مهاجمة المشاركين في المعسكر الصيفي لشباب حزب العمال النرويجي، قال بريفيك إنه يعتبر الحكومة مسؤولة عن وضع النرويج «في جحيم التعددية الثقافية»، وهو تعبير يعكس خطورة بعض جوانب الجدل في عدد من الأوساط الأوروبية والغربية بشأن الإسلام ووضع الجاليات المسلمة في الغرب، وهو جدل يغذيه بعض السياسيين والكتاب ومن يسمون بالمفكرين الذين يكثرون من الحديث عن «التطرف الإسلامي»، أو يروجون لفكرة الخطر الإسلامي على القيم الغربية ويقولون إن الكثير من المهاجرين الإسلاميين يرفضون الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة ويريدون فرض ثقافة موازية.

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على سبيل المثال أثارت جدلا واسعا عندما أعلنت أن التعددية الثقافية فشلت تماما، حيث فهم كلامها على أنه موجه تحديدا للمسلمين الذين يقدر عددهم في ألمانيا بنحو أربعة ملايين، خصوصا أنها أشارت إلى العمال الأجانب، ومعظمهم كانوا من الأتراك الذين جاءت بهم ألمانيا خلال ستينات القرن الماضي للمساعدة في عملية النهوض الاقتصادي في بلد قضت حربان عالميتان على عدد كبير من الذكور القادرين فيه. فميركل بدت غير سعيدة بفكرة التعدد الثقافي عندما قالت في خطاب قبل عامين «اعتقدنا في الستينات أننا أحضرنا عمالا ضيوفا على ألمانيا، لقد كذبنا على أنفسنا طويلا وقلنا إنهم لن يبقوا طويلا، وهذا غير صحيح بالطبع. إن المقاربة المتعددة الثقافات بأننا نعيش جنبا إلى جنب سعيدين ببعضنا البعض.. هذه المقاربة فشلت فشلا تاما».

ميركل ليست وحدها بالطبع التي تقول كلاما يؤجج الجدل حول وضع المسلمين في أوروبا، فالرئيس الألماني يواخيم غاوك أثار انتقادات واسعة بمجرد توليه منصبه هذا العام عندما قال «إننا لا نريد مجتمعات موازية»، كذلك فإن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تعرض لانتقادات عندما بدا وكأنه ينضم إلى ميركل في الحديث عن فشل التعددية الثقافية، أو في مطالبته للمسلمين بأن يثبتوا أن الإسلام يمكن أن يتعايش مع الديمقراطية. هذه التصريحات تسهم في الجدل الدائر حول الإسلام ووضع المهاجرين المسلمين، لكنها لا تقارن بالطبع مع طروحات أحزاب اليمين المتطرف والعنصري في أوروبا أو في أميركا، وهي تصريحات تنضح بالعداء الفج للإسلام والمسلمين، وتنتج عنها تصرفات حاقدة أو جاهلة مثل حرق القس الأميركي تيري جونز أو زميله وين ساب لنسخ من القرآن.

في ظل أجواء الشحن هذه لم يكن غريبا أن نشهد فرض إجراءات وقيود في بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وبلجيكا على النقاب، أو على المآذن في بلد مثل سويسرا، فالإسلام أصبح مادة للمتاجرة السياسية والإعلامية لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية التي مضى عليها 11 عاما شهدت الكثير من الجدل والنقاش حول الإسلام والتطرف والإرهاب، وهو جدل انحرف في مناسبات كثيرة عن العقلانية وصب في تأجيج أجواء العداء ضد كل ما هو إسلامي وكل من هو مسلم. ومثل هذه الأجواء هي التي تنتج بريفيك وأمثاله، وهي التي يتغذى منها المتطرفون، ليس في الغرب وحده، بل أيضا في العالم الإسلامي.

[email protected]