المصير العربي التائه

TT

قبل أن يصل إلى طهران ليشارك في مؤتمر دول عدم الانحياز، حرص الرئيس المصري على التصريح بأن نظام بشار الأسد يجب أن يرحل. وقبل ذلك بأيام استقبل الرئيس مرسي مديرة صندوق النقد الدولي التي وعدت بتقديم قرض بعدة مليارات إلى مصر، علما بأن بعض منظري الإسلاميين يعتبرون الفائدة المصرفية ربا، والاقتراض من مصرف أجنبي حراما. وقبلها بأيام عين الرئيس رؤساء تحرير الصحف المصرية التابعة للقطاع العام، لكنه في الوقت نفسه رفض توقيف صحافي لكتابته مقالا يتهجم فيه عليه. وفي الوقت الذي طوى فيه الرئيس المصري صفحة «الحكم العسكري»، فإنه لم يتوان عن إصدار القوانين والقرارات التي تؤكد على جمعه وممارسته للسلطتين التنفيذية والتشريعية معا، وهذا مناف للديمقراطية. وفيما كانت المصفحات المصرية تطارد العصابات التي هاجمت وقتلت عددا من الجنود المصريين في سيناء - غير مبالية بالاحتجاجات الإسرائيلية - كان أكثر من مسؤول في القاهرة يؤكد على أن مصر ستحترم الاتفاقات الدولية الموقعة سابقا (بما فيها طبعا اتفاقية كامب ديفيد).

للوهلة الأولى قد يخيل للبعض أن هذه الخطوات التي أقدم عليها الحكم الجديد في مصر يناقض بعضها بعضا، أو أنها تدل على أنه لا يزال يتلمس طريقه غير قادر أو راغب في الكشف عن كل وجهه أو وضع عنوان واضح لهويته وأهدافه البعيدة. لكن الحقيقة، أو بالأحرى مشكلة الربيع المصري - وربما كل ربيع عربي آخر - هي أن الذين آلت إليهم الأحكام ليسوا كتلة واحدة، أو يتزعم فريقهم قائد أو رئيس واحد، وأن ما ورثوه من أحوال البلاد والحكم هو إرث ثقيل جدا، وأن القيام بأعبائه اليومية يتعدى النظريات والشعارات التي رفعوها، وأنه ما من استقلال مطلق وسيادة تامة لأي حكومة أو حاكم في العالم اليوم.

لقد دخل الربيع العربي نهاية عامه الثاني، وما نراه أو نسمع عنه في الدول العربية التي تغيرت أنظمة الحكم فيها أو تلك التي لم تهز رياحه أركانها، يؤكد على حقائق ثلاث:

1) أن الأحزاب الإسلاموية نجحت في الوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه، وأن الدول الغربية الكبرى سلمت بهذا الواقع الجديد.

2) أن هذه القوى هي مجموعة من عدة تيارات وجماعات متنافسة بل ومتنازعة.

3) أن هناك معارضة مدنية واسعة ولكن مبعثرة الصفوف باشرت معركتها ضد المشروع السياسي الإسلاموي.

من هنا يأتي الاعتقاد بأن الأنظمة الجديدة الحاكمة سوف تجد نفسها قريبا أمام خيار صعب. فلئن هي مارست النظام الديمقراطي ممارسة حقيقية فإنها ستجد نفسها أمام معارضة وطنية مدنية قادرة على التغلب عليها في الانتخابات المقبلة. أما إذا أرادت المحافظة على السلطة لتنفيذ برامجها فإنها ستضطر إلى اتباع الأسلوب السلطوي الذي ثارت عليه وأسقطته.

لكن أهم من علامات التعجب والاستفهام التي ترتفع فوق طبيعة الأنظمة الجديدة وأهدافها الحقيقية، هو ما يمكن تسميته بالضياع المصيري العربي. ولا نتحدث عن القمم العربية شبه النائية بنفسها عن القضايا العربية الحقيقية، ولا عن جامعة الدول العربية التي تحولت إلى شبه منظمة ملحقة بالأمم المتحدة، ولا عما آلت إليه سوريا (قلب العروبة النابض سابقا)، ولا عن مشاريع التقسيم والانفصال التي تهدد أكثر من دولة عربية، ولا عن القضية الفلسطينية وعملية السلام اللتين باتتا ترقدان في كهف التاريخ.

نعم، لقد صفق العالم للربيع العربي الواعد بالديمقراطية والحرية والكرامة، ولكن أزهار هذا الربيع باتت مهددة بالذبول قبل أن تعطي ثمارا. وقد لا يكون الذنب أو الخطأ في الأشخاص والأحزاب التي آل - أو سيؤول - إليها الحكم، ولا ذنب الناخبين الذين صوتوا بأمانيهم وعواطفهم، وليس على برامج إصلاحية وإنمائية واجتماعية موضوعية قابلة للتنفيذ.

في الوقت الذي حطت فيه المركبة الفضائية الأميركية على سطح كوكب المريخ، ويعمل فيه آلاف المهندسين وخبراء الإلكترونيات في المختبرات والجامعات الغربية على اكتشاف اختراعات مذهلة لتسهيل وتحسين حياة البشر وحماية البيئة وفتح آفاق جديدة للمعرفة.. في هذا الوقت يتقاتل عرب ومسلمون في سوريا وأكثر من بلد عربي ومسلم آخر، لا من أجل مستقبل إنساني أفضل، بل لتصفية حسابات نزاعات تعود إلى ألف عام وأكثر.. ويتسلحون ويحشدون قواتهم استعدادا للحرب القادمة بين بعضهم وبعض، والتي لن تعدم إسرائيل وسيلة للنفخ في جمراتها.