متى كانت الأقليات مضطهدة؟

TT

لم تضطهد الأقليات السورية في الماضي. لو أخذنا الكرد لوجدناهم من مؤسسي الدولة السورية الوطنية، ومن الذين تولوا أعلى المناصب فيها: من أول رئاسة وزارة إلى أول رئاسة جمهورية وأول رئاسة أركان جيش. لم يتعرض الكرد للاضطهاد في بلاد تعرّب خلال تاريخها كرد كثيرون، كما تكرّد بالمقابل عرب كثيرون ضمتهم القبائل التي عرفت بالموالي. لكنهم عانوا الأمرين بدءا من عام 1963، عندما وضع النظام خطة بالغة اللؤم والإجرام قامت على فصل وتطويق مناطق يعيشون فيها عبر ما عرف بـ«الحزام العربي»، الذي أحل قبائل عربية محلهم، وبدل أسماء قراهم وبلداتهم، وجعلهم جسما غريبا ومعاديا في وطن كانوا دوما جزءا تكوينيا منه، خدموه بإخلاص وتفان كسائر المخلصين من أبنائه، بينما حرض بقية السوريين عليهم بذريعة أنهم غرباء غادرون يتحينون فرص الانقضاض على الوطن، ولا بد من تعريضهم لقمع مكثف ووقائي يسعى إلى الحد من أذاهم ويقضي على شرورهم.

مثلما حرض نظام العسكر البعثي الشعب ضد المواطنين الكرد من أبنائه، حرض جميع السوريين بعضهم ضد البعض الآخر، وأثار شكوكا مدروسة وموجهة بينهم، زرعت وعززت أحكاما مسبقة متنوعة ومؤثرة حيال الآخر، وسمت وعي العامة ولعبت دورا مهما في تكوين آرائهم ومواقفهم، التي صار من السهل على أهل النظام شحنها بأي قدر يريدونه من العداء حيال غيرهم من المواطنين. لم يستطع النظام كسب المواطنين، بعد دوره في هزيمة العرب وسوريا خلال عدوان يونيو (حزيران)، ولم يحقق أي وعد من وعوده بل حقق عكسها، فلعب لعبة «فرق تسد» الاستعمارية، ورسم استراتيجية كاملة لتمزيق المجتمع قامت على تأليب المواطنين بعضهم ضد بعض، واستغلال أي نقطة من نقاط الخلاف أو الاختلاف وجدها بينهم أو نجح هو في إحداثها، طائفية كانت أو طبقية أو فئوية أو مناطقية أو تاريخية، ولا غرض له غير تحويل مجتمع سوريا إلى جماعات متنافرة متصارعة يمنع عليها الالتقاء حول أي مبدأ جامع أو فكرة مشتركة غير تلك السخافات المتعلقة بصحة سياسات النظام وعبقرية وعصمة قائده الفريد من نوعه بين خلق الله، وحتمية الولاء له في سائر الظروف والأحوال، والانقياد له انقياد العميان باعتباره الأساسي والباقي الذي يدين الشعب الزائل والعديم الأهمية بذاته له بكل شيء، بما في ذلك وجوده.

هذه الاستراتيجية كانت جوهر سياسة النظام الداخلية خلال قرابة نصف قرن، وقد استمات لغرسها في وعي المواطنين بجميع وسائل السيطرة والتدجين، ليصير من الطبيعي أن يرى السوريون أي شيء يصدر عنه وكأنه أمر طبيعي لا يتسع عالم الواقع والاحتمالات لأي أمر طبيعي أو منطقي آخر سواه، بل إن سوريين كثرا صدقوا ما كان النظام يقوله عن خلود الأسد الأب، «قائدنا إلى الأبد»، وعندما مات مروا بأزمة حقيقية، أو أنهم لم يصدقوا أصلا أنه مخلوق يموت، واستمروا في الإيمان بخلوده، خاصة في بعض الأوساط التي كانت قريبة منه في الحرس الجمهوري، والتي كانت تسميه «المقدس».

حين بوغت النظام بوحدة الشعب خلال انتفاضته الأخيرة، لم يجد رأسمال قابلا للاستثمار غير ما زرعه فيه من فرقة وأحدثه من تمزق، فكان أول ما راهن عليه هو الطائفية، وقد تبين من أول يوم أنه رسم خطة محكمة الغرض لإثارة نعراتها، فكان يرسل الأمن إلى القرى المسيحية والعلوية لتخويفها من جيرانها السنة، ويرسل إلى القرى السنية من يخوفها من جيرانها العلويين والمسيحيين، ويعلن في الحالتين استعداده لحراسة الخائفين، أي لاحتلال قراهم وبلداتهم للسهر على إثارة عوامل التفجر والاقتتال بينهم. هذا ما فعله مثلا في الغاب، حيث خوف أهل الصقيلبية المسيحية من جيرانهم أهل قلعة المضيق السنة، وبالعكس، حين ذهب وفد من الصقيلبية إلى قلعة المضيق لاستيضاح الأمر، التقوا في الطريق بوفد من القلعة آت إليهم لمعرفة الأسباب التي تدفعهم إلى مهاجمة بلدتهم. عندما تبينت حقيقة ما جرى للوفدين، عاد كل منهم إلى بلدته محاولا التخلص من المخابرات التي انتشرت فيها.. وفي النهاية، عندما فشل النظام في إثارة الناس بعضهم ضد بعض، بطش بأهل القلعة، التي لم يجد قسم كبير منهم مكانا يذهبون إليه غير منازل إخوانهم وأصدقائهم مسيحيي الصقيلبية.

لم ينجح النظام في إثارة فتنة طائفية بين السوريين، رغم ما وزعه من سلاح ونشره من أكاذيب. في الآونة الأخيرة، بدأ خوف الناس من المستقبل يتراجع، ووقع تحول حقيقي في مواقفهم من السلطة وسياساتها، وصدرت مواقف واضحة عن جهات كنسية مهمة تدين العنف وتطالب بوقفه وبإيجاد حل يلبي مطالب الشعب، ونشرت أرقام فائقة الدلالة حول حجم مشاركة العلويين والمسيحيين والدروز في الحراك الثوري، وحصتهم الوازنة من قتل وقمع السلطة، وشروع بعضهم في تشكيل كتائب للجيش الحر أو للمقاومة الشعبية، ودورهم في إغاثة السكان داخل المناطق المنكوبة وخارجها، بينما انخرط أهل السلمية الإسماعيليون في الحراك بقوة وكثافة منذ بدايته، وتعرضوا لحملات قتل وقمع متتابعة، حتى إنهم تحركوا قبل مدينة حماه، ولعبوا دورا مهما في تحريكها.

يعرف السوريون اليوم فضائح وفظائع حقيقية عن سياسات النظام التمزيقية والتفريقية، ويشعرون بأهمية انتمائهم المشترك بالنسبة إلى نجاح مطالبتهم بالحرية أو إسقاط نظام العنف الفئوي، الذي ورط أبرياء من طوائف وفئات مختلفة في سياسات ألحقت بهم أفدح الضرر، لكنهم يكتشفون اليوم أن علاقاتهم وأحوالهم قبل النظام كانت أفضل بكثير منها بعده، وأنهم لم يكونوا مضطهدين قبل السلطة الحالية، وأن ظاهرة الطائفية كانت في طريقها إلى التلاشي والاختفاء أمام روح وطنية جامعة، في حين جعل هو الطائفية حامل نظامه وأداة لقتل أي وطنية عليا تضم الجميع تحت لوائها من دون تمييز أو تفرقة.

ليس تاريخ سوريا مع النظام غير تاريخ الاضطهاد الذي مارسه ضد جميع مكوناتها الوطنية والدينية والإثنية؛ تاريخ إحياء العصبيات المتخلفة والدنيا، التي كانت تتراجع وتذوب، فليس من الخطأ إطلاقا القول إن الأقليات لم تعرف الاضطهاد قبله، وإن اضطهادها سيزول بزواله، وإنه ستقوم بعده علاقات ندية بين المواطنين جوهرها احترام خياراتهم الشخصية وحمايتهم قانونيا وتربيتهم على خيارات عامة تحفظ النسيج الوطني وتعزز تماسكه.

سينتهي اضطهاد الأقليات بنهاية نظام الفتن الطائفية وتوريط السوريين في نزاعات وصراعات كانوا يتجاوزونها بنجاح، وإلا لما صار حافظ الأسد وأعداد هائلة من الشباب العلوي ضباطا في الجيش، ولما تمكنوا من المشاركة في قلب السلطة والاستيلاء على الحكم. وستنتهي الأقليات والطوائف، لأن النظم الديمقراطية لا تقر بوجود أقليات غير سياسية، وترى في الطائفية مجرد انتماء خاص إلى مذهب ينضوي تحت الانتماء العام إلى المجتمع والدولة ولا يحل محله أو يراه بدلالته. عندئذ، سيكون للمواطن الحق في أن يكون من طائفة معينة من دون أن يكون طائفيا، وستشرق شمس زمن سوري جديد لن يعرف التمييز بين المواطنين، وسيحمي القانون حقوق السوريين المتساوية مهما كانت خياراتهم الخاصة أو الذاتية، وستواصل سوريا مسيرتها نحو المجتمع الواحد، الحصين ضد الفرقة والتمييز والانقسام، وسينقلب ما فيها من تنوع إلى مصدر ثراء وطني لا ينضب. عندئذ، سيعرف السوريون أن نظام الأسد لم يحمهم بل عرضهم لأفظع الأخطار وتلاعب بحياتهم ومصالحهم، وأنهم لا حماية لهم خارج الحرية والعدالة والمساواة.