11 سبتمبر vs 17 ديسمبر

TT

رغم كل تداعيات 11 سبتمبر (أيلول) على الحالة الأميركية، وما صاحبها من تحولات عميقة في السياسة الخارجية الأميركية والحرب على الإرهاب؛ فإن دويها الأكبر طال الخارج الأميركي، وظل الداخل يحاول التعافي من أزماته الداخلية وأهمها الاقتصاد؛ في حين أن السياسة الأمنية المتشددة ظلت مكانها، بسبب إيمان الولايات المتحدة العميق بأن الإرهاب ما زال حاضرا كتهديد حقيقي حتى وإن كانت فرص تكراره هنا تزداد ضمورا يوما بعد اليوم.

قبل بضعة أيام قال «جو بايدن»، نائب الرئيس الأميركي، أمام مؤتمر الحزب الديمقراطي في سياق التبشير بانتصارات أوباما: «أسامة بن لادن مات، و(جنرال موتورز) موجودة»؟ وهي عبارة على رمزيتها في سياق الدعاية الانتخابية إلا أنها صيغت بذكاء حاد؛ فابن لادن ليس «القاعدة»؛ فضلا أن يكون حجر الإرهاب الأخير، وفي ذات الوقت «جنرال موتورز» ليست الاقتصاد الأميركي وإن كانت مؤشرا على عدم انهياره بالكامل.

وبعيدا عن الحالة الأميركية التي يجب أن لا تشغلنا عن أنفسنا؛ فإن السؤال الآن في الذكرى الحادية عشرة لهجمات 11 سبتمبر هو إلى أي مدى ساهم في إعادة صياغتنا للأسئلة الكبرى، مقارنة بحدث «الثورات» التي شكلت علامة فارقة في الحالة العربية من المفترض أنها فاقت بحجم صداها وآثارها ضربة برجي التجارة في أميركا؟

رغم الاختلاف الذي يبدو لأول وهلة؛ فإن الحدثين يحملان قدرا من التشابه في الأسئلة والتأثير؛ وإن كنت أعتقد خلافا للسائد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ كانت أكثر إيجابية في تحريك المياه الراكدة من «زمن الثورات» في الأول تحركت المفاهيم وفي الثاني تحركت الكراسي.

كلا الحدثين كان من منطلق علاقة العنف بالتغيير، وهي علاقة فلسفية وجدلية انطلقت أصلا من إشكالية «العنف» بأنواعه المسلح والرمزي في تحقيقه للعدل، تاريخيا ويا للمفارقة شكل هذا السؤال أول علاقة في الفلسفة تاريخيا منذ أوجها اليوناني، حيث طرحت مسألة السلطة والدولة من حيث مرجعية التأسيس والأطر التي تضمن بقاء قوة السلطة وتماسك الجماعة من خلال احتكار أدوات العنف، ومن ثم طرح السؤال فلسفيا أيضا من خلال علاقة الدولة بالكيانات الأخرى، وارتباط ذلك بالقيم المشتركة والعدوانية وخلق العدو لبقاء الوحدة.

الحادي عشر من سبتمبر حرك مفاهيم الحريات والعدالة والموقف من الآخر والتعددية، كما سلط الضوء على مفهوم «العنف» ومن خلاله أعاد فهمنا للأصولية باعتبارها إحدى أهم الأزمات التي فجرها الواقع المتردي للبلدان العربية ومن ثم تصديرها إلى الخارج، وما كان لذلك العنف الكامن أن يجعلنا نلتفت إليه إلا حين ارتد إلينا عبر موجات كانت أكثر دموية وتأثيرا لولا أن الميديا الأميركية كرست كل جهودها لاستحلاب أيلولها؛ 12 مايو (أيار) السعودي كان إحدى موجات الارتداد التي جعلنا نلتفت جيدا إلى «القاعدة» إلى الحد الذي صرح فيه الملك عبد الله بن عبد العزيز أن معركتنا مع الإرهاب طويلة جدا، ومن ثم تحول «العنف» من أجندة يمكن تبريرها لمكتسبات خارجية إلى مشكلة تمس الذات، ترمل الأم وتخطف الابن وتدمر الممتلكات، هذا العنف الذي كان من قدرنا الجيد أن تتعملق «القاعدة» وتخرج عن جحورها الصغيرة في أفغانستان ومناطق التوتر لتضرب أوروبا في نفس الوقت الذي تدمر فيه في المغرب وإندونيسيا واليمن.

عولمة «الإرهاب» عبر أذرع «القاعدة» أعادت صياغة مفاهيمنا حول الذات والآخر على نيران غير هادئة، صحيح جدا أن الأنظمة العربية ظلت راكدة بفعل حالة الارتخاء التي سببتها الحالة الأمنية فيما يتصل بالحقوق السياسية؛ إلا أن القادم لم يكن في الحسبان.

17 ديسمبر (كانون الأول) لم يكن حدثا استثنائيا، لا برجان ينهاران؛ لكن الصورة كانت أكثر رمزية حيث جسد يحترق عمدا في انتحار لم يمس الآخر؛ قدر أنه كان ضد الذات نفسها، محمد البوعزيزي ينتصر لعربة خضاره فيحرق نفسه وصولا إلى نظامه السياسي الذي لم يفهمه جيدا حتى وإن ادعى ذلك، وتنفرط سبحة الاحتجاجات لتنتقل من تونس إلى مصر فاليمن فليبيا فسوريا، ويستلهمها آخرون فينقلون حرائقهم المجازية على صفحات الإنترنت و«تويتر» والـ«فيس بوك»، وتسقط أنظمة وعروش بفعل الاحتجاج الذي اتخذ شكل العنف الرمزي لكنه لم يجرؤ حتى الآن على إثارة كل تلك الأسئلة التي أثارها الحادي عشر من سبتمبر وما لحقه من حرائق الإرهاب.

لم يمت الإرهاب، كما أن سقوط الأنظمة الاستبدادية لم يجعلنا نعيش زمن المدينة الفاضلة، وهنا درس التاريخ المتجدد الذي علينا أن نلتقطه بهدوء بعيدا عن صخب الجماهير الذين حولوا حياتنا السياسية إلى مباراة مفتوحة وطويلة.

واقع الجماعات الإرهابية رغم تراجعها عن «الفرجة» ومنصات الأخبار، يقول لنا إنها في طور جديد من التشكل وإن «الربيع العربي» ساهم في عزلتها، لكنه منحها الفرصة الحقيقية لأن تكون البديل الجاهز في حالات الفشل وعلى تخوم الدولة الفاشلة التي يمكن أن تصير إليها «دول الربيع» في حال استمر التفكير على طريقة لاعبي الرياضة من الاهتمام بالهتافات التي تستوجب المزيد من المهارات الفردية الاستعراضية، ونسيان الأسئلة الحقيقية حول مصائر الدولة ومكونتها، إضافة إلى وضعية الاقتصاد الذي لا يكترث كثيرا «بالفرجة» لأنه مشغول بـ«الأرقام».

في الضفة الأخرى، فإن واقع المكونات السياسية لدول «الربيع العربي» في أسوأ حالاته، فصانعو الثورة يخاصمون مختطفيها الذين قاسموهم «اللعبة» وحرموهم «التتويج والكأس»، كما أن مبررات الثورة، الحرية، والخبز، والتردي للحقوق والحالة الاقتصادية وفرص العيش الكريم، ازدادت إلحاحا، مما يوحي بأن «مباراة الثورة» كانت في حقيقتها: مباراة ودية لاعتزال الأنظمة العجوز، فلم يتغير الوضع سوى باستبدالها بفريق آخر يختلف في الشكل وليس المضمون.

في أيام الحادي عشر من سبتمبر كانت الشكوى الدائمة هي التدخل الدولي وحرب الولايات المتحدة غير العادلة باسم الإرهاب وتقصير المجتمع الدولي في حماية الأقليات تجاه الهجمات العنصرية، لكن ذلك كله اختلف بعد السابع عشر من ديسمبر، فتدخل المجتمع الدولي بات محدودا جدا وهو في أغلبه لمصلحة «الربيع العربي» إما دعما مباشرا كما تفعل أميركا، أو بالتشجيع والمباركة كما هو حال الدول الغربية، وحتى النقد الذي يطال الحكومات تجاه ملف الأقليات السياسية المضطهدة هو أقل بكثير مما كان يقال تجاه التعامل مع الإرهاب، ومع ذلك فإن الحالة السياسية - باستثناء تغير الكراسي - لم تقدم أي مؤشرات إيجابية في إعادة فهمنا للمشتركات بدءا من الحقوق والحريات ووصولا إلى الالتفات إلى أسئلة التنمية وما يريده المواطن المغلوب على أمره في كلا الحالتين.

في الخليج الدول التي مسها الإرهاب بسوء، ولم تمسها رياح «الثورات» كانت التحديات أقل تأثيرا رغم صعوبتها بعد الحادي عشر من سبتمبر، سعوديا كان تحدي الإرهاب كبيرا ومزدوجا، فمن جهة أعقبت الهجمات حالة ارتخاء على مستوى العلاقات السياسية، لكن الضربات الاستباقية على معاقل الإرهاب الذي مسنا بأكثر مما مس الأميركيين أنفسهم ساهم في فك تلك الازدواجية، بل وجعل من السعودية لاعبا رئيسيا في ملف الإرهاب الذي ما زالت الدولة تنظر إليه بجدية بالغة.

وعلى العكس، فإن حالة الاستقرار السياسي رغم كل رياح الثورات التي أوحت بسهولة الخروج من مأزقها، فإن التحديات السياسية التي تعيشها المنطقة تفرض على السعودية دورا رئيسيا لا يقل أهمية عن دورها في الحرب على الإرهاب، وأنا هنا لا أتحدث عن لعبة «الأهلة» التي بات البعض يستخدمها بانتهازية سياسية، فالتلويح بالهلال الشيعي عقبه التلويح بالهلال الإخواني، رغم أن الأول في طريقه للأفول، والثاني يعيش ممانعة سياسية داخلية ومحاولة «عقلنة» خارجية، وربما هذا الدور الذي ينتظر دول منطقة الخليج والدول العربية وبالطبع السعودية كرقم صعب ومهم في المرحلة المقبلة، فالدور القادم هو ضرورة التعاون مع دول «الربيع العربي» لإخراجها من منطق هوياتها الصغيرة الحزبية، ومن أجواء المعارضة التي كانت تعيشها طيلة فترة تشكلها، إلى أن تصبح دولا فاعلة في السياق الإقليمي وفق مبدأ التحالف والتعاون المشترك، وليس الابتلاع الآيديولوجي أو التصدير الفكري الذي أحال واقع «إيران» إلى ما آلت إليه من حصار إقليمي وانهيار اقتصادي.

«عقلنة» الحالة السياسية هو مطلب مهم، وربما كانت الكتابات النقدية التي كتبها فلاسفة كثيرون ما بعد الحادي عشر من سبتمبر قد ساهمت في تقليم أظافر رد الفعل الأميركي، كلنا يتذكر تصريحات ومقالات الفيلسوف جاك دريدا الذي وجه سهام النقد إلى كوارث رد الفعل الأميركي باعتبار «أن معيار السيادة لا يشكل في ذاته إطارا محددا لمشروعية العنف، بل إن مفهوم السيادة ذاته يحمل ضمنيا النزوع الإمبراطوري التوسعي الذي يؤدي إلى الخروج عن الشرعية»، وكما يؤكد فإن «الحروب الاستباقية أدت إلى تفكك كل المنظومات المنطقية والدلالية والسياسية والقانونية التي كانت تميز الدول الديمقراطية المتشبثة بالشرعية والدول المارقة».

والآن نحن بحاجة إلى أن يتحلى مثقفونا بالشجاعة في عدم الالتفات إلى صخب الجماهير ليراجعوا بنفس المنطق «الحالة الثورية» وارتداداتها على القيم الإنسانية الكبرى بعد سقوط الأنظمة الذي كان أول حرف في سؤال التغيير.

والحال أنه بعد إحدى عشرة مناسبة للحدث أيلول 2001، يمكن القول وداعا زمن 11 سبتمبر، نحن الآن في زمن 17 ديسمبر، حيث تبدل السؤال من: «لماذا يكرهوننا؟!»، إلى: «لماذا نكره أنفسنا»؟