الجهل يولد التعصب.. والخسارة فادحة

TT

ليس هناك ترادف بين كلمتين في اللغة أكثر منه بين كلمتي الجهل والتعصب، ودلالاتهما على أرض الواقع. ولقد ظهر ذلك جليا في أحداث الأيام القليلة الماضية بين اغتيال السفير الأميركي في بنغازي من جهة، وبين التعرف على الفيلم الذي أطلق في الإنترنت حول الرسول عليه السلام من جهة أخرى، وبين المظاهرات حول السفارات الأميركية أو التهديد بها في بعض العواصم العربية، وبين تعميم السخط على الأقباط، وسط التجاهل أو السكوت السلبي من أهل الرأي إلا قليلهم.

الجهل يقود دوما إلى التعصب، والأخير يزيد وطأة ثقل الجهل. أول الجهل أن الفيلم الذي أثار كل هذا اللغط، أقل ما يقال فيه إنه تافه، لا يحرك خلية عصبية واحدة من عقل أي فطن واع، خرافات مجمعة تدل على أن الذي أنتجه شخص أو أشخاص، أقل ما توصف قدراتهم بأنها ضحلة، ولقد شاهدت مقاطع من الفيلم، فأوحت لي بأنه عمل ليس بعيدا عن المهنية فقط، بل إنه مثير للسخرية. في المقابل سمعت أحد المتظاهرين في الإذاعة البريطانية العربية من القاهرة يقول: إنه غاضب بسبب الفيلم، ثم أردف أنه لم يره ولكن سمع عنه! وإن لم أكن متشائما فإن الكثير من المتظاهرين في بنغازي وربما الذين شاركوا في قتل السفير الأميركي هناك لم يشاهدوا الفيلم، والكثير ممن تظاهروا أيضا في بلدان مختلفة فقط سمعوا عنه. وأمام هذا الجهل من جهة، والتعصب الرديء من جهة منتجي الفيلم، يقع العرب والمسلمون في مصيدة أول من يستفيد من ورائها وهم أعداؤهم، في الظاهر وفي الباطن! الإعلام الإيراني من جهة والإعلام الإسرائيلي من جهة أخرى - وأنا واع بهذا التوصيف ألا أقع في مذمة التعميم ولا في حفرة المؤامرة – أقول: كلاهما استفاد من الحادث فوظفه لأهدافه السياسية، وربما يكون ذلك العمل من جانب كليهما مبررا ولكن علينا فهمه. عداء إيران لأميركا لا يحتاج إلى دليل، فجاءت حادثة الفيلم الرديء لتؤججه، وعداء إسرائيل للعرب هو أيضا لا يحتاج إلى إثبات.

الفيلم الذي حمل جهلا وتعصبا وعبارات ساذجة، لم يستخدمها منتجو أفلام عن قبائل متخلفة، وردود الفعل - التي حملت نفس الصفات - تم الاستفادة منها على حساب ثقافتنا وديننا. أحدهم استفاد من جانب، أن أميركا – كل أميركا - لها موقف سلبي من الإسلام والعرب، وأن أفضل لغة تعرفها (أميركا) هي العنف! ومن جانب آخر إسرائيلي يقول: إن العرب جهلة عاطفيون، يعممون فعلا أخرق قام به شرذمة من المتعصبين على كل أميركا، حتى في الدولة التي ساهمت أميركا وحلفاؤها في إنقاذها من بطش ديكتاتور جبار، لذلك لا لوم علينا في معاملتهم بهذا الصلف في فلسطين!

الخاسر في كلتا الحالتين هم العرب. أفضل ما كان يمكن أن يواجه به الفيلم الرديء ذاك هو التجاهل! أو على الأكثر لمسيرات احتجاجية تقول للعالم إن ظلما وقع من البعض، ونحن له رافضون. أما وقد خضع لكل ردود الفعل العصبية، من بينها القتل، فقد تسابقت المواقع الإخبارية وعلى الشبكة العنكبوتية لترويج للفيلم من خلال ردود الفعل، كما روج في نفس الوقت لفيلم قصير هو حديث إنساني للسفير المقتول، يعبر فيه عن حبه لليبيا وشعوره بالفخر لتحريرها، ويتطلع إلى عمل يخدم الشعبين الأميركي والليبي في إطار من الحرية والتكافؤ! تلك مقارنة جالبة للحسرة! الخاسر الأكبر بين فعلين... فعل الجهل وفعل التعصب هو نحن العرب أو المسلمون بوجه أعم. ولقد تكثفت الخسارة عندما لم تقم الحكومات العربية بفعل شجاع، يقوم على عاملين؛ الأول هو تبصير شعوبها بأن الفيلم تافه ولا يضير قيد أنملة الرسول العربي العظيم ولا رسالته التي قد امتدت في الزمن لقرون، ووصلت في الجغرافيا لشعوب الأرض قاطبة، وهو دليل مادي للعقلاء أنها رسالة خالدة وإنسانية، لا ينال من عظمتها فعل رديء تافه، فأسرع دين يعتنق في أميركا هو الإسلام وأكثر من يسمى في بريطانيا هو محمد. والثاني هو إشاعة المعرفة أن بلادا مثل أميركا يوجد فيها الكثير من المعتوهين والمتعصبين، ولكن ذلك ليس سياسة أميركية معتمدة، ولا هي مقبولة من العقلاء وهم كثر أيضا. الوقوف أمام مثل هذا الأمر موقف المتردد والمساير والمبرر يزيد الطين بلة، أكثر مما هو مبلول، ويحيله إلى بركة طين متحركة تبتلع كل من عليها دون استثناء.

لقد كنا هناك من قبل، فقط منذ مدة، كنا هناك لما ثارت ضجة للكاريكاتير الدنماركي المسيء للرسول، وخرجت المظاهرات وبدأت المقاطعات، قتل في المظاهرات من قتل، وحرقت سفارة هولندا في بيروت على أنها السفارة الدنماركية! واستفاد السياسيون من الحادث لتضخم رصيدهم الشعبي، وشمر عن ساعد المقاطعة للبضائع الدنماركية، ثم عادت الزبدة الدنماركية إلى رفوف بقالاتنا!

لدي شعور أرجو أن يكون على خطأ فيه، هو أن من يقوم بهذه الحركات السخيفة من أفلام تافهة، أو كاريكاتير ساذج، أنه يريد أن يخرج أسوأ ما فينا من تعصب، وأعمق ما فينا من جهل، وأقصر ما فينا من مواقف سياسية، وربما تكون تلك الحركات متمخضة عن دراسة مسبقة! هل يذكر أحد منا الموقف الشاجب ضد كتاب سليمان رشدي «آيات شيطانية»؟ لقد روج للكتاب الذي كان عبارة عن رواية ليس لها حظ من النجاح، بسبب تلك المواقف، كما لم يروج لكتاب من قبل. استفاد منها الكاتب والناشر لأنها أثارت الكثير من حب الاستطلاع، فأصبح الكاتب للبعض بطلا زامنته لفترة حراسة رسمية من الشرطة البريطانية، وأصبحت القصة كلها مثالا على قصر نظر. سليمان رشدي اليوم يسير في الشوارع ويلج الحانات، وتبخر وهج روايته، أما الإسلام فهو باق.

لا الفيلم ولا الكاريكاتير قبله، ولا كتاب رشدي ولا الكتب التي تضج بها المكتبة العالمية الناقدة للرسالة الإسلامية، ولا خيرت فلديرز اليميني الهولندي ولا بعض سياسيي النمسا، قد نالت من هذا الدين العظيم كما نال منه من يعتقد من معتنقيه من المتلاعبين بالوعي أنهم أصحاب معرفة. لا أريد أن أدخل في تلك التعاليم الكبرى التي جاء بها النبي حثا على وجوب تجاهل التعصب، حيث أمر أن يرد على الجاهل بقول آخر، فقط أذكر بقول عظيم تجاهلناه هو «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»... «وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ»! بعض منا يواجه الجهل بالجهل، ويدمر المصالح بوعي كاذب، وتلك ميزة جاهلية بامتياز.

آخر الكلام:

قررت حكومة باكستان منع موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» لأنه ينشر ما يمس الإسلام!