أميركا: تخريب السفارة وقتل السفير

TT

في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وعلى خلفية غضبة عارمة على فيلم تافهٍ يسيء للرسول الكريم، توجهت الجموع إلى السفارة الأميركية في القاهرة، وأضرمت النار، وأحرقت العلم الأميركي، ورفعت مكانه رايات تنظيم القاعدة السود، وفي ذات الوقت تحرق مجموعة متطرفة القنصلية الأميركية في بنغازي، وتقتل السفير وبعض الموظفين.

كانت الولايات المتحدة تسابق ميدان التحرير في وسط القاهرة وشبابه الغاضب في الدعوة لرحيل حسني مبارك، وبعد نجاح الاحتجاجات، ذهبت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون للتجوّل في ميدان التحرير احتفاء بحقبة جديدة وتوجهات جديدة لسياسة الإدارة الأميركية تجاه المنطقة، تلك التي ترى أن حقبة حكم العسكر في الجمهوريات العربية قد انتهت واستنفدت أغراضها، وبانقضائها سينتهي الاستبداد، وأن وصول الإسلام السياسي للحكم بديل يجب تجريبه، وقد حان وقته، وهو كفيل بالقضاء على تنظيم القاعدة وتيارات العنف الديني في العالم الإسلامي.

تبدو هذه الرؤية ناقصة وغير واقعية من أكثر من جهة؛ فحكم العسكر الذي نبذته اليوم تعاملت معه منذ البدايات في الخمسينات، حينما دعمت موقف عبد الناصر ضد ما عرف حينها بالعدوان الثلاثي، وكانت على أوثق الصلات بالرئيس أنور السادات، ومن بعده حسني مبارك، وها هي اليوم تعيد نفس السيناريو وتفتح المستقبل لحقبة جديدة من حكم الإسلام السياسي بقناعتها أنه سيكون حكما ديمقراطيا خالصا يرضى بتداول السلطة، ولا يمارس الاستبداد.

ثم إن الإدارة الأميركية التزمت الصمت المطبق تجاه عمليات الاستحواذ الواسعة من قبل حركات الإسلام السياسي على كل مفاصل الدولة وسلطاتها المتعددة ومؤسساتها الفاعلة، كالمؤسسات الإعلامية والمؤسسة الدينية التقليدية والقضاء ونحوها، تلك الممارسات التي جعلت شركاء تلك الحركات السياسيين قبل معارضيها يجأرون بالشكوى، ويصرّحون بالتحذير من خطورة وتسارع هذه التوجهات، وهذا الصمت وغض الطرف سيكون له ثمن ستدفعه الإدارة الأميركية الحالية والإدارات اللاحقة.

لم يكن الاستبداد يوما على شكل واحد وهيئة واحدة، والاستبداد المدني غالبا ما يكون أرحم بكثير من الاستبداد الديني، وقد تحدث الكواكبي كثيرا عن هذا المعنى، وخطاب حركات الإسلام السياسي يرفض الاستبداد الذي يمارسه الآخرون، ولكنّه يشرعن الاستبداد الذي يحكم هو به ويقرر فيه ما هي العدالة، هذا في الخطاب، أما عن تجريب حركات الإسلام السياسي كبديل لم يجرب فهو غير صحيح أيضا؛ فقد تم تجريب هذه الحركات وممارستها للسلطة في أكثر من بلد، كالسودان وغزة، وأكثر من هذا فقد كانت الولايات المتحدة جذلة فرحة بسقوط نظام الشاه بإيران ووصول زعيم الإسلام السياسي الشيعي الخميني لسدة الحكم في طهران، وهو ما ظلت تدفع ثمنه منذ أول يوم، ولأكثر من ثلاثين عاما.

مع اختلاف المشهدين، فقد كان من أوائل الاحتجاجات في طهران احتلال السفارة الأميركية وأخذ موظفيها رهائن لشهور تلت، وها هي جموع أخرى لمتطرفين آخرين تغير على السفارة الأميركية في القاهرة، وجموع أعنف تحرق القنصلية الأميركية في بنغازي بليبيا، مما ينقض حتى الآن وعلى المستوى المنظور فكرة أن وصول الإسلام السياسي لسدة الحكم سيقضي على تيارات العنف الديني والمتطرفين الإرهابيين، وكم هو معبر حديث هيلاري كلينتون حين قالت: «الأميركيون يسألون وأنا أسأل نفسي كيف يحدث هذا في دولة ساعدناها وأنقذناها من الدمار؟!».

السياسات الخاطئة تنبع من أفكار خاطئة، والأفكار الخاطئة تُبنى على تصورات خاطئة، ومن هنا فإن قصر تصور وفهم طبيعة جماعات العنف الديني وطبيعة الفرد الإرهابي على الظروف السياسية والاقتصادية (على أهميتها) فحسب هو تصور ناقص فخاطئ بالضرورة، فمشكلة العنف الديني هي مشكلة آيديولوجية بالأساس، ودون أخذ هذا الأمر بالاعتبار يختلط المشهد ويضيع التصوّر، فتخبط الرؤى والقرارات خبط عشواء.

الولايات المتحدة بلد عظيم على المستوى العلمي والحضاري والإنساني، بل والسياسي في كثير من الأحيان، ولكن هذا لا يعني أبدا أنها لا ترتكب الأخطاء والخطايا أحيانا في مواقف إداراتها السياسية، وفيما يتعلق بهذا السياق يمكن المقارنة مع ما جرى بالعراق، حيث سلمت البلاد هناك لتيارات الإسلام السياسي الشيعية عبر صناديق الاقتراع، فكانت النتيجة أن سلمت العراق بكامله لإيران، وها هو أداء تلك التيارات في السلطة يمنح نموذجا جديدا في الاستبداد والديكتاتورية، حيث بدأ بمحاكمات طائفية مقيتة، ومر بترهيب الخصوم عبر التفجيرات والاغتيالات، ووصل أخيرا لتوظيف القضاء في ضرب الخصوم السياسيين، وحكم الإعدام الصادر بحق نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي مجرد مثال.

المؤشرات كثيرة على أن ما جرى بالأمس قد يجري اليوم وغدا مع اختلاف البلدان والظروف، وكلا الأمرين تم برعاية أميركية، والفارق هو أن أخطاء الإدارات الأميركية السابقة بدأت تظهر للعلن عبر التسريبات والمذكرات والحوارات السياسية التي أوضحت كثيرا مما كان مخبأ وسريا بالأمس وبالأمس القريب، ولكن أخطاء الإدارة الحالية تحتاج لعين فاحصة ورؤية متماسكة تراقب وترصد وتقارن وتحلل، وتخرج بنتائج تسعى لمقاربة الحقيقة وتوصيف أدق للمشهد.

لماذا تخطئ الإدارة الأميركية في بعض سياساتها تجاه المنطقة؟ سؤال كبير، وربما كان جزءا من الإجابة يكمن في عمليات تضليل علمية وأكاديمية تنتشر في الجامعات الأميركية وبعض مراكز البحوث في توصيف تراث وتاريخ المنطقة وصراعاتها، مع حفظ الاعتبار لبحوث رصينة لا تلقى رواجا، وكذلك انطلاقها في سياساتها الخارجية على موازنات الداخل الأميركي، وتلكؤها المتواصل تجاه الأوضاع في سوريا مجرد شاهد آخر على تلك الأخطاء، وفضلا عن الموقف الإنساني الجدير بالعناية، فإن سماحها بتضخم أدوار وتأثير روسيا والصين في التوازنات الدولية على حسابها خطأ كبير.

لقد حذر من تلك السياسات والمواقف بعض من بقايا المثقفين والساسة الأميركيين الذين كانت لهم مواقف وأدوار خدمت الولايات المتحدة ومصالحها، وعلى رأسهم زبغينيو بريجنسكي وهنري كيسنجر، ولآراء الرجلين مكانة معتبرة اليوم تستمد قوتها من تاريخهما الحافل؛ إن في التنظير السياسي والاستراتيجي، وإن في التطبيق عبر المناصب المهمة التي تسنّماها.

عودا على بدء، فإن رؤية الولايات المتحدة تجاه التطورات الجديدة في المنطقة تحمل كثيرا من المخاطر وكثيرا من الأخطاء، وسيخرج لاحقا ساسة مشاركون في أحداث اليوم ليكشفوا تحقق تلك المخاطر ويوضحوا تلك الأخطاء، ولن تجدي حينها الحكمة بأثرٍ رجعي أو الرأي الدبري، كما هي التسمية العربية.

أخيرا، فلئن كان من الخلل الاستمرار في ارتكاب نفس الأخطاء فإنه ومن الخطل أن ترتكب ذات الخطأ مرات وتعتقد أن النتيجة ستكون مختلفة.