الدولة المستدامة.. في يوم الوطن

TT

واجهت الدولة السعودية منذ تأسيسها تحديات كبرى، وما زالت تلك التحديات متواصلة؛ أبرزها القدرة على استيعاب مفاهيم ووسائل العصر مع المحافظة على الثوابت والمكاسب التنموية في عالم يعج بالمتغيرات المتسارعة في المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها.

وقد استطاعت السعودية خلال العقود الماضية أن تحقق تقدما تنمويا كبيرا. وما حدث من ازدهار اقتصادي وعلمي أسهم بالفعل في تحسين مستوى معيشة الملايين من المواطنين وفتح العالم أمامهم، لكنه زاد من الضغوط وأصبح المجتمع أكثر عرضة للمشكلات والاختراقات الفكرية، مما جعل على عاتق السعودية مسؤولية عظيمة في المحافظة على هذا الازدهار في الحاضر والمستقبل. وتشكل الذهنية المستنزفة والمتذبذبة أكبر خطر يهدد تلك المكتسبات، مما يجعل الاهتمام بالتنمية الاقتصادية ليس الهدف الأوحد الأكثر إلحاحا كشرط من شروط استقرار الدولة واستدامتها.

فالاستقرار الفكري لا بد أن ينظر له أيضا على أنه هدف تنموي استراتيجي، بل هو الهدف الأساس لدولة مستدامة، لما يحققه من أصالة ورسوخ في الثوابت الدينية والسياسية والاجتماعية ومن ثم المحافظة على الدين والوطن.

وهذا الهدف هو الأمل بعد الله في المحافظة على المكتسبات واستمرار الدولة. وهذا الاستقرار الفكري لا بد أن يأخذ البعد الزمني في الاعتبار ويعتمد على دراسة الحاضر والتنبؤ بما يمكن أن يحصل في المستقبل، من خلال دراسات معمقة للبيئة المحلية بمكوناتها المختلفة مع الانفتاح بثقة على كل الحضارات وما تحمله من مفاهيم للتلاقح المفيد معها.

كما أن الدولة المستدامة لا بد لها أن تلبي للأجيال الحاضرة والمقبلة الحاجات الأساسية من عدل وأمن وسكن وغذاء وعمل وخدمات صحية وغيرها؛ فالإنسان بطبعه يسعى لتحقيق حياة أفضل له ولأبنائه في ظل بيئة عادلة آمنة ومستقرة.

إلا أن ملامح تلك الاستدامة ستظل في غموض ما لم تتوفر معها استجابات وإجابات مقنعة للأجيال الشابة ولما يدور في عقولهم من توقعات وتساؤلات فرضتها المرحلة العمرية لهم والتحولات المتسارعة التي يعايشونها، لكي لا يبحثوا لدى الغير عن إجابات تشفي تساؤلاتهم فتستغل الدول المتربصة والجماعات المؤدلجة هذه الثغرة لتجنيدهم كأدوات هدم لا بناء.

من هنا تبرز الحاجة للتوسع في العمل المؤسسي الذي يشترك فيه علماء الشريعة، الاجتماع، النفس، الاقتصاد، السياسة، الإعلام، التعليم وغيرها من العلوم للخروج بخارطة طريق استشرافية لدولة مستدامة، أساسها ومنطلقها عقيدة صحيحة وميدانها حوار واسع مع كل الأفكار والأطراف خاصة الشباب منهم.

فالدين والوطن يسعان الجميع ولا يمكن لأفراد أو فئة قليلة أن تحتكر لنفسها الترويج للتحديث والتقدم وتملي على المجتمع دروسا في الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وغيرها انطلاقا من مفاهيم غريبة على الدين والمجتمع، وهي أبعد ما تكون عن هم الوطن والمواطن، أو أن يخرج بين فينة وأخرى أفراد أو جماعات تفسر الدين وفق رؤيتها الفكرية الضيقة الداعية للعزلة والكراهية.

وهذه الرؤية الاستشرافية للدولة المستدامة تنبثق من البيئة المحلية وقيمها الدينية والاجتماعية والسياسية، ركيزتها تأصيل شرعي لكل المفاهيم كالتكفير، الجهاد، حقوق الإنسان، الحريات، الشورى وغيرها من مفاهيم بالإضافة إلى المفاهيم التنموية المساندة والمعززة للاستدامة، كقيم العمل والإنتاج واحترام الوقت والمنافسة والإبداع، ليكون مشروع التأصيل هذا دليلا استرشاديا لخارطة طريق تشكل إطارا لتلك الدولة المستدامة.

* كاتب سعودي