حدود القوة الأميركية

TT

لو قدر لإحصاء أن يتم حول أكثر الكلمات ترديدا في فضائنا الإعلامي، لكانت أميركا والأميركان، والولايات المتحدة هي الحماة لكل الكتاب والسياسيين العرب، يضعون عليها وزر شغب زوجاتهم! التي لا يستطيعون له تفسيرا. نتائج الانتخابات الأميركية هي حيرة أخرى، ويحلو للبعض تضخيم الوهم الأميركي كمثل تضخيم دور الحماة.

معظم التقارير التي تابعت الانتخابات الأميركية الرئاسية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تجمع على أن من يكون متقدما في استطلاعات الرأي العام، من المتسابقين للرئاسة في شهر سبتمبر (أيلول) السابق للانتخابات، يكون هو الفائز في الغالب في نوفمبر (تشرين الثاني) الذي يليه.

إذا اعتمدنا هذه القاعدة، فإن المتوقع أن يكون باراك أوباما هو الرئيس القادم للولايات المتحدة، كونه المتقدم في الاستطلاعات حتى الآن، إن لم يحصل من اليوم حتى يوم الانتخاب شيء مفاجئ ومؤثر يغير الرأي العام الأميركي في اللحظة الأخيرة.

حتى الضجة التي اندلعت في الأسبوع الماضي حول الفيلم المسيء للرسول، حاولت حملة ميت رومني المنافسة أن تستفيد منها، إلا أن المحاولة سرعان ما تراجعت.

الانتخابات هذا العام فاترة، آثار أحداث سبتمبر 2001 قد تلاشت نسبيا، فقد تم الاحتفال بذكراها الأسبوع قبل الماضي في موقع الحدث، دون وجود شخصية سياسية كبيرة، كما أن آثار الحروب الخارجية قد تراجعت. القضية الأكبر الآن في الولايات المتحدة هي الاقتصاد، الذي يقدم فيه ميت رومني (المنافس لأوباما) برنامجا لا يختلف عن سابقيه من الجمهوريين، ويقدم فيه الرئيس القائم باراك أوباما شيئا من الأمل. الناخب الأميركي محتار بين رئيس فقد شيئا من شعبيته، ومرشح يريد إنتاج ما كان!

يخشى الديمقراطيون من عدم إقبال الناخبين على صناديق الانتخاب في نوفمبر، لأن ضعف الإقبال سوف يؤثر على حجم منتخبي أوباما، أما الجمهوريون فلا يشكل حجم الإقبال فرقا كبيرا لديهم، حيث إن المتحمسين للحزب كتلة تكاد تكون معروفة. هذا لا يعني ألا تحدث مفاجآت.

بالنسبة للعرب فإن الاجتهاد السائد أن أوباما – في هذه المرحلة – أفضل نسبيا من ميت رومني في السدة الرئاسية الأميركية لعدد من الأسباب. منها على سبيل الانتقاء أن الرئيس الأميركي في دورته الثانية والأخيرة يكون متحررا من ضغوط الكونغرس والناخبين إلى حد كبير، فتطلق يده في السياسة الخارجية، على أمل أن يتخذ أوباما موقفا أكثر وضوحا في ملف سوريا، وبعض الملفات العالقة في المنطقة، وربما حتى في الملف الفلسطيني. من جانب آخر، تسربت بعض المعلومات الصحافية منذ أشهر، أن أوباما قد أسر لبعض رجال الدولة من خارج الولايات المتحدة، أنه ينوي القيام بمبادرات على المستوى العالمي، مختلفة عما تم حتى الآن، وهذا ملف مفتوح بالطبع يمكن توقع الكثير فيه.

الحقائق على الأرض ليست كما يتصورها البعض ممن رسخت في أذهانهم «القدرة غير المتناهية» للولايات المتحدة للتأثير في القضايا العالمية. ليس هناك ما يؤكد أن الإدارة الأميركية كانت وراء «ربيع العرب»؛ هي في الحقيقة في الحالة المصرية كانت تفضل «تغيير تدريجي من داخل النظام» وقد سارت الأمور على خلاف ذلك، هذا يفسر ما قاله أوباما الأسبوع الماضي «مصر ليست حليفة ولا عدوة» وفي الحالة الليبية أخذت «المقعد الخلفي» وتركت أوروبا تقود الأحداث، أي المساعدة كانت غير مباشرة، كما أنها الآن تراوح في مكان واحد بالنسبة لما يحدث في سوريا. قد تجد الولايات المتحدة نسب كل التأثيرات لها في مناطق كثيرة من العالم، على أنه إضافة نفسية لا تقاومها، ولكن المؤكد أنها لم تعد فاعلة كما كانت قبل سنوات في المشاهد الداخلية في بلدان كثيرة. فقد شهد النظام الدولي تحولات هيكلية بالغة العمق في السنوات الأخيرة، زادها الوضع المالي العالمي المتأزم عمقا منذ عام 2008. حتى وصل بعض المحللين الدوليين إلى القول: إن النظام العالمي كما عرفه العالم بعد الحرب العالمية الثانية قد تغير إلى غير رجعة.

لم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض أجندة عالمية، دون التوافق مع القوى الجديدة، خاصة روسيا والصين وأوروبا، لا في القضايا السياسية ولا حتى البيئية أو الاقتصادية. المثال السوري بالغ الأهمية، في ضوء اغتيال مدمر للمدنيين واستخدام متعسف لأسلحة فتاكة مثل المروحيات والطائرات وذخيرة قريبة من التحريم للاستخدام ضد المدنيين، تقف الولايات المتحدة وحلفاؤها قاصرة عن فعل أي تأثير على الأرض، لقد بدا أن دولا، بل وقوى خارج الدولة، يمكنها أن تتصرف في الأمن الإقليمي أو المحلي دون قدرة الآخرين على الردع، في لبنان مثلا وفي العراق وفي اليمن وفي الصومال وربما في سوريا في القريب. من هنا التردد الكبير في موقف الولايات المتحدة تجاه إيران، غير التصريحات.

التفاعلات الدولية ليست في حالة سيولة أو انسجام، بل في حالة من الفوضى، أساسها غياب القيادة الدولية التي تقصر الولايات المتحدة عن القيام بها، كما تقصر التحالفات الدولية الكبرى عن إنجازها. أول الخاسرين في حالة الفوضى وغياب القيادة الدولية المناطق المعتمدة على الولايات المتحدة في أمنها، لتقديم الدعم في حال الضرورة، اليابان وتايوان إذا نظرنا إلى بعيد، والخليج إن نظرنا إلى قريب. يفسر البعض موقف الولايات المتحدة أنه تعمد تشجيع التغيير في المنطقة العربية، ربما ذلك ينطبق على الدول التي لا تربطها مصالح وثقى بها، إنما ما يبدو أنه تشجيع للتغيير في الدولة المرتبطة بمصالح الولايات المتحدة، هو ليس تشجيعا بقدر ما هو قصور في الخيارات، وتراجع في القدرات، تجعلها غير قادرة على المساعدة، في حين أن إعلامها بالضرورة مناصر للتغيير، ولا يتوقع منه عاقل غير ذلك. النموذج الأميركي لم يعد قادرا على مواصلة تصدير «المثل العليا» كما كان يقول.

مرحلة أوباما القادمة هي الانحياز إلى تعافي الاقتصاد الأميركي، وصرف النظر عن المثالية الجمهورية في فترة «المحافظون الجدد» السابقة، وكانت تصدير «المثل الأميركية»، وسوف يترك ذلك للتفاعلات المحلية التي تجري الآن في كثير من الأمكنة، مع تشجيع الفائز والتخلي عن الخاسر. أولويات الولايات المتحدة القادمة هي التحالف الاستراتيجي مع الصين وتراجع في المثاليات لترجيح المصالح، والتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان، متى ما استعاضت عن اتخاذ موقف صارم بالكلام الإعلامي المرسل.

العلاقات العالمية المقبلة تؤكد أن كل داخل ينشغل بداخله، سواء أكان هذا الداخل محليا في الدولة الواحدة أم إقليميا. في هذا الوضع فإن التكتل الإقليمي العربي يحتم عليه النظر لوضع استراتيجية جديدة، وعدم ترك الساحة للمصادفة أو التصرف الأحادي، وهذا ينطبق على دول الخليج التي لها من الأهمية الاقتصادية ما يطمح آخرون في النيل منها، إلا أن هذا قريب إلى التمني أكثر منه إلى الواقع، حيث يشمل العمل العربي عددا من السلبيات لم توجه إليها الأنظار بعد.

نتائج الانتخابات الأميركية القادمة، أيا كانت، سوف تسير على ما اتبع حتى الآن، فتراجع الدول ليس خيارا شخصيا أو باختلاف القيادات، هو تراجع محتم، كما أن بقاء الدول العربية في حال الانتظار عملية عبثية، حيث الانتظار أسوأ من وقوع الشر.

آخر الكلام:

قراءتي أن الصدام القادم في بلاد الربيع العربي سوف يقع بين مشروعي «الإخوان» والسلف. إن لم يسحب الملف كاملا من الديني إلى السياسي، توقعوا نتائج وخيمة.