هل هم غوغاء أم عناصر مثيرة للشغب؟

TT

أفكر في أن الله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها، غير أنه سبحانه ترك له مهمة فهم معانيها وما يترتب عليها من أفعال عليه أن يشعر بمسؤوليته عنها. الواقع أنه من أصعب الأمور في الدنيا التعرف على أسماء الأشياء والأفعال التي تعترض طريقك فجأة لتضعك في موقف جديد على خبراتك، أي لم تفكر من قبل في حدوثه لك، عندها تختلط الأسماء ببعضها بعضا، فينهار في عقلك النظام الذي تعلمت به هذه الأسماء من قبل باعتبارك من أبناء آدم. ومع ذلك ففهم الأسماء والأفعال ليس كافيا في حياة البشر، الأكثر أهمية هو قدرتك على تخيل ما يترتب على الأفعال والأسماء من واقع جديد لم يكن له وجود من قبل. وفي غياب هذا الخيال أو فساده فستكون الخيبة والفشل في انتظارك على ناصية الشارع.

هذه مقدمة ربما تكون قد طالت بعض الشيء لألفت نظرك إلى ثمرة جديدة ظهرت في حقل السياسة والأحداث في الأسبوع الماضي.. اسم جديد، أو تعبير جديد هو «العناصر المثيرة للشغب»، وهذه هي المرة الأولى منذ نشوب الثورة التي تظهر فيها هذه الصفة لوصف من أجلتهم قوات الأمن من أمام السفارة الأميركية ومن محيطها ثم من ميدان التحرير كله تمهيدا لإعادة الميدان إلى ما كان عليه من رونق وبهاء.

كانت هذه هي المرة الأولى منذ قيام الثورة التي تخوض فيها قوات الأمن معركة ضد جماعة جديدة من البشر تسمى «العناصر المثيرة للشغب»، فقبل ذلك كان الميدان وأماكن أخرى قريبة أو بعيدة عنه تعرف «المتظاهرين» فقط. غير أنك لو نزلت مصر الآن وتجولت بين كاميراتها وميكروفوناتها وأقلام كتابها فلن تجد أثرا لهذا التعبير أو الاسم الجديد. اختفى تماما وكأنه ينتمي لذلك النوع من مناديل اليد التي تستخدم لمرة واحدة، أو كأنه سلعة تم سحبها بسرعة من الأسواق بعد أن اتضحت خطورتها على الناس أو على السياسة. لقد تم حصار ومهاجمة سفارات لدول أجنبية من قبل منذ شهور، لكن قام بذلك متظاهرون وليس عناصر مثيرة للشغب، والتظاهر كما تعرف - ولعلك شبعت معرفة - حق من حقوق الإنسان في البلاد التي تحترم حقوق الإنسان، ولذلك كان متظاهرونا على حق عندما هاجموا تلك السفارات. ربما تحتج على ما أقول صائحا: «كيف يكون متظاهرا هذا الذي يهاجم أملاك الناس العامة والخاصة، أين التظاهر الذي تحميه الحضارة المعاصرة في الهجوم على أرض أجنبية هي سفارة ممثلة لدولة ما ليست في حالة حرب معنا؟».

ويرد أحدهم عليك: «لكل بلد تقاليده وخصوصيته، نحن نتظاهر بهذه الطريقة، متظاهرونا يهجمون على السفارات وعلى وزارة الداخلية وعلى مبنى مباحث أمن الدولة، وعلى سيارات الشرطة، وعلى المرافق العامة، وعليك وعلى العالم كله أن يحترم ذلك».

الواقع أنا لن أحترم ذلك، وإلى الأبد سأرى أنه ليس من حق مخلوق الاعتداء على أي مخلوق أو ممتلكات خاصة أو عامة، وأن عددا كبيرا من البشر الذين أطلق عليهم اسم «متظاهرين» لم يكونوا متظاهرين وإنما كانوا - بعد إذن حضرتك - غوغاء.

هذا هو الاسم الغائب الذي يخشى الجميع حضوره. نعم.. الغوغاء هم الذين هاجموا السفارة الأميركية وغيرها من السفارات من قبل. غير أننا نخشى استخدام هذا «الاسم». أليس من الجائز أن يُقتل أحد هؤلاء الغوغاء وهو يهاجم مركزا للشرطة؟.. هل سيكون من السهل محاكمة من قتله، وليكن ضابطا أو مديرا للأمن أو شرطيا، بتهمة قتل الغوغاء؟.. لا طبعا.. ولكن يمكن اقتياده إلى الجحيم بتهمة قتل المتظاهرين. وحتى الآن يتحدث عدد كبير من الناس عن أحداث شارع محمد محمود.. أين من قتل المتظاهرين في محمد محمود؟ أين حق الشهداء؟ أين التحقيقات؟ وأين حق شهداء ماسبيرو؟

هذه المعركة - معركة شارع محمد محمود - من المؤكد أنها ستسبب ارتباكا كبيرا للمؤرخين في العصور القادمة.. فبالتأكيد سيتساءلون: ماذا كان يريد المتظاهرون من السيد محمد محمود؟ ما هي القضية بينه وبينهم؟

الواقع أن «المتظاهرين» لم يكونوا يريدون شيئا لا من الشارع ولا من السيد محمد محمود، كانوا فقط يريدون اقتحام وزارة الداخلية المصرية لتدميرها، من أقرب مكان لها وهو هذا الشارع، وكان الأمن والجيش يحاولان منع تقدمهم بأقل قدر من الخسائر خوفا من تهمة قتل المتظاهرين الشهيرة. لو أن القيادة السياسية في ذلك الوقت تجرأت واستخدمت الكلمة الصحيحة والاسم الصحيح وهو «الغوغاء» لكانت الخسائر أقل بكثير.. خسائرها وخسائر الغوغاء.

عدم الاعتراف بوجود بشر يمثلون أحشاء المدينة يشكل جهلا لا يليق بكل من يعمل بالسياسة عن طريق الصدفة أو الحظ أو سوء الطالع، سوء طالع المصريين. بعد مهاجمة السفارة الإسرائيلية، وهي موجودة في بناية عادية تسكنها أسر مصرية، استطاع شاب الصعود إلى سطح البناية وانتزاع العلم الإسرائيلي ونزل به إلى الأرض، واستدعاه رئيس الوزراء في ذلك الوقت وأرسله بخطاب لمحافظ مدينته لإعطائه شقة ووظيفة (هذا ممثل أصيل لأحشاء المدينة، لا بيت ولا وظيفة)، واحتفت بعض الجرائد والبرامج بذلك إلى أن ظهر شاب آخر وقال: «لأ.. مش هوّه.. ده أنا.. وهناك شهود.. وأنا نازل من العمارة هناك سيدة قبلتني وأعطتني كوب عصير وخمسمائة جنيه».

هكذا تحول الهجوم على السفارة إلى نوع سخيف من العبط والخيال العابث. وضاعت الشقة وضاعت الوظيفة وضاع المجد كما ضاع أيضا رئيس الوزراء المحروم من الخيال السياسي. عندما تطلب من أحد المحافظين في حكومتك أن يمنح شابا شقة ووظيفة لأنه هاجم سفارة وأنزل علمها، مع الاعتراف كل الاعتراف بأن إسرائيل عدوة لنا ونحن أعداء لها على الرغم من اتفاقية السلام بيننا وبينها، ألن تشجع بذلك عشرات ألوف الشباب في مصر على البحث عن سفارة عدوة أخرى للهجوم عليها وإنزال علمها وحرقه؟ فهل هذا ما تريده بالفعل؟

على كل المشتغلين بالشأن العام أن يعرفوا أن مسايرة الغوغاء والعوام تؤدي حتما إلى المزيد من الخراب، وأن من حق أي مخلوق أن يخاف، أن يخشى الشارع وما يسمى بالجماهير، غير أنه يجب أن يتعامل مع خوفه بشرف، وأن يكون واضحا مع الناس ومع نفسه. إن أقوى الأسلحة في العمل السياسي هو الصدق مع النفس ومع الناس، وهو ما يحتم استخدام الأسماء الصحيحة. لقد تعلمها آدم، وعلينا أن نثبت أننا نعرفها وأننا ورثناها عنه. هذه هي الخطوة الأولى التي نثبت بها للغوغاء أننا سنتولى الدفاع عن أنفسنا.. أي أننا سندافع عن مصر والمصريين، على الأقل بتسمية الأفعال بأسمائها.