عقدة الإسلام

TT

للغرب - كحضارة - فرصة للتقدم أفضل مما هو عليه لو تخلص من عقدة الإسلام، تلك العقدة التي تحول الإنسان الغربي الذكي والمتحضر إلى كائن بدائي مدفوع بنعرات بدائية شبه غريزية عندما يتحدث عن الإسلام.

أستسمحكم اليوم في الكتابة كمسلم غاضب لا كأكاديمي، وأستأذنكم أيضا في أن أدافع عن حرية الغضب كمكون أساسي في حرية التعبير. فمن حق المسلم اليوم أن يغضب، ومن حقنا أن ندافع عن حرية الغضب كما يدافع الغرب عن حرية التعبير. أعي تماما ما أقول ومدلولاته ونهايته المنطقية وكيف سيستخدمه المتربصون. ولكنني اليوم مسلم غاضب وأرى أن لي كل الحق في هذا الغضب ضد تعالي النخب الغربية واستباحتها للدين الإسلامي واستخفافها بكلام هو مقدس عند المسلمين. فاليوم لا يستطيع الغربي أن يؤذي مشاعر أي ملة أو نحلة حتى لو كان من ينتمون إليها هم عشرات، ومع ذلك لا يتردد في استباحة حرمة دين يعتقد به أكثر من مليار مسلم حول العالم. درست أمهات فلسفة الغرب ومنهجياتها المختلفة ومقارباتها الحضارية، ومع ذلك أرى أن نخب الغرب من الساسة ومعظم أساتذة الجامعات والصحافيين يظهرون اليوم أسوأ ما في النفس البشرية من بدائية عندما يتحدثون عن الإسلام والمسلمين، وأقول هذا عن دراية ومعرفة ونتيجة حوارات مطولة على الشاشات وفي الصحف وفي أروقة معاهد العلم. والسؤال هنا، لماذا يكون المثقف الغربي عاقلا في الحديث عن معظم الأمور، وفجأة يتحول إلى كائن تحركه غرائز ونعرات الإنسان البدائي عندما يتحدث عن الإسلام رسالة ورسولا؟

كنت قبل يوم أمس ضيفا على قناة أميركا الناطقة بالعربية والمعروفة بـ«الحرة» وكان هناك ضيف آخر هو مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكان موضوع الحوار هو حرية التعبير عند الغرب مقابل قدسية الأديان في الشرق، هكذا أطر القائمون على البرنامج الحوار وحددوه، فلم يكن هناك مجال لشرح أي شيء في مواجهة غرور الجهل من قبل مساعد وزير الخارجية الأميركي السيد كوزاك. وكانت نقطتي الأساسية هي أن في أميركا حرية تعبير ولكنها لا تشمل حرية المسلمين عن التعبير بما في ذلك التعبير عن الغضب. فرد المذيع بسذاجة، بأنني الآن أتحدث على قناة أميركية بكل حرية، وكأننا نتحدث على قناة «سي بي إس» في برنامج face the nation، أو في برنامج «ما بعد العشاء» على قناة «إيه بي سي»، طبعا كنا نتحدث بالعربية وللعرب وليس للجمهور الأميركي أو الغربي، ولو كنت في أميركا يومها ما استضافتني قناة أميركية إلا من باب token «أي: أهو معانا مسلم في الحلقة» وبس، ومن باب ذر الرماد في العيون، ولكن هذا المسلم للعرض فقط وليس لكي يسمع أو تحترم آراؤه أو تناقش بجدية.

وأتحدث عن سابق خبرة ومعرفة وقد أتيحت لي فرصة الظهور على معظم القنوات التلفزيونية الغربية وكتبت في أهم صحف الغرب ودرست في أفضل جامعاته، ومع هذا أعيد تكرار السؤال: لماذا يكون المثقف الغربي عاقلا في معظم الأمور ويتحول إلى كائن بدائي عند الحديث عن الإسلام وتاريخه ورسالته؟

لن أبدأ بمساعد وزيرة الخارجية الأميركية، ولكنني أبدأ بالوزيرة نفسها. فإن ما صرحت به هيلاري كلينتون من أن دول الربيع العربي انتقلت من ديكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية الغوغاء the mob، لو دققنا في الخلفيات الثقافية الحاكمة لهذا التصريح سنكتشف عنصرية بغيضة تقف خلفه. ليست ديكتاتورية غوغاء أن يعبر المسلم عن إهانة لدينه ونبيه وليست ديكتاتورية غوغاء أن يتظاهر الناس أمام السفارات أو حتى يرموها بالحجارة، فهذا غضب لحظات يفيض فيها الكيل. ربما السيدة كلينتون لم تجرب هذا النوع من الغضب لأنها لم تكن أبدا على الناحية الأخرى للإهانة.

هناك كلام فارغ يكرر في الغرب كلما حدث حادث مثل هذا، وأول هذا الكلام هو حرية التعبير. أنا لست ضد حرية التعبير إلى أقصى مدى، وأدعي أن الإسلام قرآنا وسنة مع حرية التعبير، ومن يقرأ سورة «الكافرون» يدرك ذلك. وأنا أفهم أن المقصود بـ«الكافرون» ليس الكفار بالإسلام وإنما الكافر المنكر لأي فكرة مغايرة. «لكم دينكم ولي دين». دعوة تعايش.. أليس هذا ما قاله الشاعر الأميركي روبرت فروست good fences make good neighbours، «الأسوار الجيدة تخلق جيرانا جيدين» أي كل في حاله. المشكلة فيمن يتحدثون عن حرية التعبير ولا يعرفون المجال الخاص بحرية التعبير، حرية التعبير ليست مجرد فكرة أو مبدأ، ولكن الأهم منها الممارسة وتطبيقها على الجميع. ترى أي حرية تعبير للمسلمين في الغرب إذا كان من يصنعون القصة الحاكمة هم ليسوا مسلمين وليس بينهم مكون إسلامي، لا خيط واحدا إسلاميا في القصص الوطنية المعروضة. يظهر رأي المسلمين على الشاشات وفي الصحف في وقت الأزمات، ثم يختفي المسلم خلف الستار ليكون المسرح كله لغير المسلم. من أين نبدأ عندما تكون محددات الحوار مغشوشة من المنبع، أي إن بنية الحوار structure of global debate مركبة لظلم المكون الإسلامي في الحوار العالمي؟

يطرح الغرب مسائل في طياتها عنصرية، كما طرح في الحوار التلفزيوني في قناة «الحرة» ووافق عليه مساعد وزيرة الخارجية، أن الإسلام والديمقراطية لا يلتقيان وأنه لا يمكن للإسلام أن يكون ديمقراطيا، وكان ردي وعلى الهواء أن هذا لا ينتمي إلى جنس الحوار الفكري وإنما إلى «قلة الأدب»، فالإسلام دين والديمقراطية نظام حكم ولا يمكن أن يقال هذا الكلام عن دين آخر، حتى لو كان من يعتقدون بهذا الدين عشرة أفراد لا مليار مسلم فالديانة الوحيدة المستباحة في الغرب ويتحدث فيها كل جاهل أو أحمق بما يريد هي ديانة الإسلام، ثم بعدها تقول هيلاري كلينتون ومساعدوها، إننا غوغاء لأننا غضبنا وسنغضب. عيب هذا الكلام. عيب أن تروج وزيرة الخارجية بعنصرية مقيتة في طيات ردها بوصف المسلمين بالغوغاء. المسلمون كانوا ولا يزالون حضارة راقية أيام كان الغرب يملأ جسده بزرقة الوشم. ولست من الماضويين الذين يفتخرون بماضٍ انتهى، فالنبي الكريم بالنسبة لنا ليس ماضيا، النبي حاضر على ألسنتنا في كل لحظة حتى في أحاديثنا اليومية بقصد أو بغير قصد نقول لبعضنا البعض «صلي ع النبي». النبي مكون من حياتنا ووجداننا، وفي إهانته إهانة لطريقة حياة. والعنصرية تبدأ من إهانة طريقة الحياة.

منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، والغرب يقول لنا كل يوم انظروا إلى هذا المسلم الناجح في الغرب وكيف أن أميركا تقبل بالمسلمين في مناصب هامة، ولا يدري المتحدث أنه يتحدث عنا كسلة للعرض. ذات مرة في القرن التاسع عشر ذهب خديوي مصر إلى باريس لحضور المعرض العالمي عن الشرق هناك، وما كان من الفرنسيين إلا أن أسكنوا الخديوي في قصر مصطنع داخل المعرض وكان يستقبل ضيوفه على الطريقة القديمة داخل المعرض. يتفرج الناس على الخديوي لا على أنه يمثل زائرا دبلوماسيا أجنبيا ولكن على أنه مجرد قطعة من الشرق داخل المعرض. والد الخديوي القائد إبراهيم باشا كان في زيارة إلى برمنغهام في بريطانيا على ما أذكر في بداية الأربعينات من القرن التاسع عشر، وفي ليلة استأذن إبراهيم باشا مضيفه كي يتمشى في المدينة من دون حاشية كشخص عادي. وهو يمشي في الشارع توقف عند خيمة كان فيها عرض لحوت ضخم وما إن دخل الباشا حتى تعرف عليه المنادي في المعرض وأخذ يزعق في الناس «أيها المارة اليوم لدينا عرض خاص وبنفس السعر، يمكنكم اليوم أن تشاهدوا الحوت العملاق كما عودناكم، ولكن زيادة على ذلك ومن دون أن تدفعوا تذكرة زيادة يمكنكم مشاهدة إبراهيم باشا المحارب العظيم بنفس سعر التذكرة». أصبح الباشا جزءا من الفرجة ومن العرض.

هكذا نحن المسلمين في الغرب جزء من عرض حرية التعبير ومن عرض الديمقراطية فقط يسمح لنا على صفحات الصحف مرة كل شهر أو على الشاشات مرة في الأسبوع من دون صوت يذكر لأننا فقط للعرض، ثم يتحدث الغرب عن أننا موجودون. الذين خرجوا عن النص المسرحي مثل السيدة المنتقبة في شوارع باريس أو غير ذلك يسببون خللا في العرض لا بد وأن يقنن ولا بد أن توضع كل تلك القطع المعدة سلفا في مكانها. أما أن تتحرك من دون قانون حاكم فهذا خروج على النص، سلوك غوغاء. يتحرر الغرب من عقدة الإسلام عندما يقبل بالمسلمين كبشر وليسوا للعرض في قصة عالمية يكون الغرب أساسها. نحن مكون حضاري أساسي في الحضارة الإنسانية ولسنا قطعة ديكور لإظهار محاسن الغرب.

من درس فن الرسم الغربي في القرن التاسع عشر تحديدا، يرى دائما صورة المرأة الغربية البيضاء وإلى جوارها خادم أسود أو خادمة سوداء، الهدف من الوجود الأسود ليس لذاته البشرية ولكن لإظهار بياض المرأة الغربية التي هي مركز اللوحة ومركز الرؤية. نحن لسنا غوغاء ولسنا لإظهار محاسن الغرب، نحن حضارة كاملة بذاتها بما فيها من نواقص، ولكننا مكون حقيقي ولسنا للديكور، وديننا ليس لإظهار محاسن ديانات أخرى، إنه دين حقيقي له أصول فلسفية عميقة. إنه دين تجريدي عالي الترميز قد يكون في أحد جوانبه أقرب إلى الرياضات. من يتعمق في هذا الدين بعيدا عن التسطيح يعرف أننا أمام رسالة لا تكشف عن مكنونها إلا لمن يحفر في طبقاتها، لدينا طبقات بعضها فوق بعض، يظن بعض المستشرقين أنهم أدركوه لمجرد معرفتهم بقشور اللغة، وهو الذي لا يعرف مكنونه المحمل بدلالات لغوية إلا من توغل في علوم اللغة والدلالة. «لكم دينكم ولي دين». فيا أيها الغرب الشريك معنا في هذا الكون، تخلص من عقدة الإسلام ذلك أنجى لنا جميعا.