الأكراد بحاجة إلى استراتيجية جديدة

TT

مشكلة الساسة الأكراد في العراق منذ 2003 أنهم دائما «ماخذين» وضع التلقي للتوصيات والقرارات التي تصدر من بغداد، ينسجون سياساتهم وخططهم على ضوئها ووفقا لما تقتضيه الحالة، فهم متلقون للحالة أكثر من كونهم فاعلين في الحالة، يعني أن سياستهم عبارة عن رد فعل وليست الفعل ذاته، مثلهم مثل حراس المرمى في لعبة كرة القدم عملهم محصور في صد الكرات الآتية من الفريق المقابل فقط دون أن يسمح لهم بالنزول إلى معترك الساحة والمشاركة في صنع الأهداف.

ويرجع سبب هذا الموقف الغريب إلى عاملين أساسيين؛ أولهما أن هؤلاء القادة الكرد، ومن خلال معايشتنا تجاربهم السياسية الطويلة؛ يمتلكون قدرا هائلا من الإعجاب بالذات والثقة الزائدة بالنفس، مطمئنين «على الآخر» لقدراتهم السياسية العالية ومواهبهم الخارقة في مواجهة أي طارئ أو الخروج من أي أزمة مهما كانت صعبة؛ يعني بالعراقي الفصيح «ما يهمهم شي»، أو هكذا يظهرون الأمر لأنصارهم ومريديهم على الأقل لكي تبقى صورتهم «الجميلة» التي حفرت في أذهانهم راسخة دائما وغير مهزوزة.. يفعلون أي شيء من أجل الاحتفاظ بهذه الصورة المثالية ولو خاضوا صراعات جانبية وعرضوا القضية الكردية لخطر محدق.

والحقيقة أن إظهار صورة القائد بهذا الشكل المثالي الذي يقترب من التقديس ليست من اختراع القادة الحاليين؛ بل هي قديمة قدم الشعب الكردي ورثوها كابرا عن كابر، وهي منتشرة في عموم الشرق الأوسط بشكل عام، وعند الأكراد بصورة خاصة، فقد برز فيهم قادة أسطوريون مثل: الشيخ سعيد بيران والشيخ محمود الحفيد ومصطفى بارزاني.. وغيرهم ممن اكتسبوا كاريزما شعبية واسعة، ووثق بهم الشعب ثقة عمياء ورفعوهم إلى مصاف الأولياء المقدسين.

والعامل الثاني غياب المنهجية الاستراتيجية وانعدام التخطيط المسبق في تحديد وتنظيم السياسات، ففي ظل غياب المؤسسات الاستراتيجية والتخطيط السياسي، وكثرة القرارات الفردية غير المدروسة، وتكرار الأخطاء، اتجه الإقليم إلى التخبط والفوضى السياسية، ودخل في صراعات جانبية وتفاصيل غير مهمة مع بغداد على حساب القضية الأساسية، كقضية الهاشمي مثلا، وسحب الثقة من فلان أو إسقاط علان من الحكم، وقضية الصراع الطائفي المرير الطويل بين المكونين الشيعي والسني، والتورط فيه.. وغيرها، وقد أشرنا كثيرا إلى أهمية أن يركز ساسة الأكراد؛ سواء الذين يديرون دفة الإقليم، أو الموجودون في بغداد، على نقاط جوهرية محددة وأن لا يشتتوا اهتمامهم في أمور لا تعود بالمنفعة على قضيتهم.

هذه نقطة استراتيجية في غاية الأهمية لا يمكن تجاهلها، والأمر الآخر الذي كثيرا ما تطرقنا إليه وبينا أهميته القصوى للقضية الكردية؛ هو العمل على فتح مؤسسات استراتيجية ذات كفاءة عالية يشرف عليها خبراء متخصصون، تنظم للإقليم سير اتجاهه السياسي وتعينه على خطواته المقبلة، وتشارك القادة في بعض اختصاصاتهم ومهامهم التقليدية في إصدار القرارات وتشريع القوانين، فمهارات القائد ومواهبه مهما كانت متنوعة ومتعددة، فهي بحاجة إلى دعم من قبل مستشارين أكفاء ومتخصصين في مجالات مختلفة، فلم يعد مقبولا في عصر التخصصات المتداخلة أن تدار مؤسسات الدولة من قبل رجل واحد ويجمع السلطات في يده، مهما كان موهوبا وخارقا للعادة.

فالأمور اليوم اختلفت عما كانت عليه قبل مائة سنة أو خمسين سنة أو حتى عشرين سنة، لا بد من وجود شريك متخصص «على شكل مؤسسة» يدعم القائد في سياساته، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يقبل هؤلاء القادة أن يشاركهم أحد في إدارة أمور البلاد وتقرير مصيرها؟ الجواب كلا.. بدليل أنهم لم ينشئوا مؤسسات حيوية من هذا النوع لحد الآن رغم مرور أكثر من عشرين عاما على إدارتهم لشؤون الإقليم، ولم يفكروا في إنشائها.. لأنهم يرون في هذه المؤسسات الاستراتيجية انتقاصا لـ«هالتهم» القيادية وخطرا على مكانتهم السياسية والاجتماعية التي يتمتعون بها؛ وليس العكس.