مبروك للهند!

TT

لا يوجد أحد منا لا يحب ولا يهوى ولا يستمتع بالقصة الجميلة ذات الفصول المثيرة والنهاية السعيدة، وخصوصا إذا كانت هذه القصة من صفحات الحياة وتنتمي إلى الواقع وليست من نسج الخيال فحسب. ومن القصص التي تنتمي إلى هذا القسم الجميل قصة نجاح مجموعة «تاتا» الهندية اليوم، وسط سلسلة لا تنتهي من التحديات والمتغيرات.

بداية لا بد من الرجوع بالذاكرة إلى حقبة الستينات من القرن الميلادي الماضي، حينما عقد بالعاصمة البريطانية لندن معرض عالمي هائل تعرض فيه مختلف قدرات دول العالم من صناعات وخدمات ومنتجات، وكان المعرض برعاية زوج الملكة البريطانية إليزابيث الثانية الأمير فيليب، وقد قام شخصيا بقص شريط الافتتاح، وأثناء تجواله في ساحات المعرض وقف أمام جناح الصناعات الهندية وابتسم ابتسامة صفراء وقال ساخرا: «وهل هناك صناعات أصلا في الهند؟». اليوم شركة «تاتا» الهندية هي المصنع الأكبر في بريطانيا، أكبر من «بي إيه إي سيستمز» وأكبر من «رولزرويس».

«تاتا» اليوم تمتلك إحدى أهم أيقونات الاقتصاد والصناعة في بريطانيا، فهي تملك شركات «لاندروفر» و«رنجراوفر» و«جاكوار» للسيارات، وكذلك تمتلك شركة «كوروس» للصلب، هي اليوم وباختصار شديد لديها 50 ألف موظف يعملون في 19 شركة في 40 مدينة وقرية في بريطانيا فقط، كجزء من إمبراطورية مترامية الأطراف والاهتمامات تبلغ مبيعاتها السنوية الـ54 مليار جنيه إسترليني.

راتان تاتا قائد المجموعة الحالي الذي نقلها للعالمية وبقوة سيترك منصبه العام المقبل ليسلمها للمرة الأولى لأحد التنفيذيين من خارج الأسرة، وهو انتقال جديد ولافت لتكريس الحوكمة والاعتماد على القدرات المهنية، والتفريق بين الإدارة والملكية للشركات العائلية.

الشركة التي تعمل في مجالات عدة ومختلفة من الفندقة (تمتلك الشركة مجموعة فنادق «تاج» العالمية) والملح والحديد التقنية الحديثة والمواصلات (تنتج الشركة سيارة «نانو» أرخص سيارة في العالم اليوم)، وكذلك تعمل الشركة بالطاقة والكابلات، ولكن اللافت في أداء هذه الشركة عبر تاريخها الغني والمهم هو اهتمامها بالعمل الاجتماعي وحس المسؤولية الاجتماعية المبكر في خططها، وإطلاق مشاريع تنموية في مجالات الصحة والطب والعلاج والجمعيات التعاونية، وأدت إلى إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات المميزة. كان راتان تاتا سباقا في الرؤية الاجتماعية، كان تبرع في بدايات القرن الماضي لكلية لندن للاقتصاد لدراسة الفقر وتوابعه وخطورته على المجتمع، وكان هذا التبرع «نواة» نقدية استخدمتها الجامعة لتأسيس قسم الدراسات الاجتماعية.

لا يوجد طعم أجمل ولا أحلى من الضحك الأخير، الهنود تحملوا عقودا طويلة من الإهانات والنظرة الدونية والاستعمارية من قبل «أسيادهم» الإنجليز البيض، ولكن مع مرور الوقت تغلبوا عليهم في لعبة الكريكيت، ثم احتلوا البقالات والمطاعم في بريطانيا، وها هم اليوم يصبحون أهم عضو في الاقتصاد البريطاني في صناعاته على أقل تقدير، مع عدم إغفال أن أثرى أثرياء الاقتصاد البريطاني اليوم هو رجل الأعمال الهندي وملك الصلب في العالم «ميتال» الذي يحتل قائمة الثراء لسنوات متتالية في التقييم البريطاني. الانتقام الهندي من الاستعمار البريطاني جاء خفيفا وهادئا وواثقا، ولكنه قاض وكامل، وأعتقد أن القصة الهندية كتب لها نهاية سعيدة لأن الهنود اختاروا طريق الإيمان بأنفسهم، واعتمدوا الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والاستثمار في التعليم والتقنية والفن والآداب، واحترام حقوق الجميع، وها هم يحصدون ثمار ما زرعوا، ويستحقون على ذلك التهنئة والاحترام الكبيرين.

[email protected]