المصيبة الأميركية التي تهددنا

TT

اعتدنا منذ فترة طويلة على أن يتحول موسم حملات أي انتخابات أميركية، سواء الرئاسية أو التشريعية، إلى مهرجان للتباري على التأييد المطلق لإسرائيل والاستعداد للدفاع عن أمنها، وذلك على حساب العرب وحقوقهم وتطلعاتهم فيما يخص شروط السلام. وفي موازاة ذلك اعتدنا أيضا على قدر من الجهل من بعض المرشحين في مسائل السياسة الخارجية، وبالتالي وقوعهم في أخطاء فاضحة أحيانا ومضحكة في كثير من المناسبات.

المرشح الجمهوري ميت رومني ارتكب حتى الآن الكثير من الهفوات، لا في مجال مواضيع السياسة الخارجية فحسب، بل أيضا في عدد من القضايا الداخلية مما جعله هدفا سهلا لانتقادات وسائل الإعلام وسخرية المعلقين إلى الحد الذي جعل الكثير من الجهات تتحدث عن أن حملته لانتخابات الرئاسة أصيبت بشظايا قاتلة من هفواته الكثيرة وتصريحاته المربكة. آخر هذه الهفوات التي وجدت طريقها إلى العلن كانت في خطاب ألقاه أمام عدد من داعمي حملته من الأثرياء والمقتدرين المحافظين الذين دفعوا مبالغ كبيرة لحضور المناسبة، ولسماع ما يطرب آذانهم من سياسات محافظة وهجوم على أوباما من المرشح الجمهوري. لكن ما تسرب من المناسبة ونشر قبل أيام تحول إلى مادة دسمة للهجوم على رومني وأحدث جرحا ربما يكون قاتلا بالفعل في حملته للفوز بالرئاسة في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو خبر سار للكثيرين الذين رأوا في الرجل مصيبة سياسية، وفي آرائه مخاطر ومطبات قد تكون لها آثار سلبية ضارة داخليا وخارجيا.

رومني كان يتحدث في تلك المناسبة بصراحة وعفوية، ربما لأنه كان يشعر أنه بين مؤيدين وحلفاء من المحافظين الملتزمين المستعدين لدفع عشرات الآلاف من الدولارات لتناول وجبة معه دعما لحملته الانتخابية، وربما لأنه كان يظن أن المناسبة غير مسجلة أو مذاعة وبالتالي فإنه يستطيع الحديث بلا قيود. لكن في عصر الإنترنت والكومبيوترات اللوحية وأجهزة الهاتف المحمول الذكية المزودة بكاميرات عالية الوضوح وقدرات على التسجيل بالصوت والصورة، لم تعد هناك قاعات أو مناسبات فيها عدد من الحاضرين يمكن للسياسي أن يتحدث فيها دون خوف من تسرب كلامه خصوصا إذا كان في الكلام ما يمكن أن يورط الشخص أو يصيبه بالحرج. في هذه الحالة كان في تسرب الكلام فائدة كبيرة لأن التصريحات ألقت أضواء جديدة على شخصية رومني وبعض آرائه المثيرة للجدل أو للقلق.

الكلام الأكثر ضررا للمرشح الجمهوري كان في قضايا داخلية وفي مواضيع حساسة تتعلق بالنظرة إلى الفقراء وبالمفاهيم إزاء السود والهسبانك أو اللاتينيين (من الأصول الأميركية اللاتينية)، على الرغم من أنه كان يحاول أن يركز في خطابه ذاك على قضايا السياسة الخارجية، وتناول بطريقة مثيرة للجدل مسألة السلام في الشرق الأوسط الذي يراه غير قابل للتحقق محملا الفلسطينيين المسؤولية «لأنهم لا يريدون السلام»، ولأن منحهم دولة سيهدد أمن إسرائيل، حسب رؤيته. فالناخب الأميركي لا يهتم كثيرا بقضايا السياسة الخارجية خصوصا في وقت تطغى فيه الأزمة الاقتصادية والمالية على كل ما عداها، وهو ما أشار إليه رومني أيضا في الخطاب الورطة عندما قال «أحد الأمور المحبطة لي أنه في أي يوم عادي مثل هذا، أحضر فيه ثلاث أو أربع مناسبات مثل هذه، فإن عدد الأسئلة المتعلقة بالسياسة الخارجية التي أتلقاها يتراوح بين صفر وسؤال واحد». ربما كان من سوء حظ العالم أن المرشحين في انتخابات الرئاسة الأميركية لا يتلقون الكثير من الأسئلة والتمحيص في قضايا السياسة الخارجية حتى نعرف عنهم المزيد ما دام أن أميركا هي القوة الأكبر، وسياساتها تؤثر على العالم من أقصاه إلى أقصاه، وبالذات على العالم العربي الذي ترتبط أهم قضاياه بأميركا وتحركاتها واستراتيجياتها.

رومني الذي تباهى بأن بعض المستشارين في حملته الانتخابية عملوا مع بنيامين نتنياهو قال إن الحديث عن إمكانية قيام دولة فلسطينية ليس مجديا «لأن الفلسطينيين لا يريدون السلام ولأنهم ملتزمون بتدمير إسرائيل والقضاء عليها»، معتبرا أن فكرة الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات للفلسطينيين لدفعهم للتحرك نحو السلام «هي أسوأ فكرة في العالم». هذا الكلام قد يبدو في نظر البعض تكرارا لمواقف الكثير من السياسيين والمرشحين الأميركيين الذين تعودوا على التنافس في مغازلة إسرائيل والتباري في إظهار الدعم المطلق لحماية أمنها، لكن رومني يبدو مخيفا لأنه يربط حديثه سواء عن الشرق الأوسط أو مناطق العالم الأخرى بمفهومه القائم على أن مرتكز السياسة الخارجية الأميركية هو القوة، وقوله «إن كل شيء أفعله سيكون محسوبا لكي يزيد قوة أميركا»، وتوعده بأنه سيتحدث بنعومة لكنه سيحمل عصا غليظة «جدا جدا جدا»، على حد تعبيره.

من حسن حظ الناقدين لرومني أنه عرج على قضايا أخرى كشف فيها عن وجه سيخيف الكثير من الناخبين وربما يدفعهم للتصويت ضده. فقد تحدث بشكل مليء بالازدراء إزاء نحو 47 في المائة من الناخبين قال إنهم سيصوتون لأوباما بغض النظر عن أي شيء «لأنهم يعتمدون على الحكومة ويعتبرون أنفسهم ضحايا، وأن مسؤولية الحكومة أن ترعاهم، وتقدم لهم الضمان الصحي والطعام والسكن.. وهؤلاء أناس لا يدفعون أي ضرائب.. وليس من واجبي أن أقلق على هؤلاء». وإذا كان المعنيون بهذا الكلام هم الفقراء وكثير منهم من السود والأقليات فإن رومني في مقطع آخر من خطابه بدا وكأنه يسخر من جذور أوباما الكينية عندما قال «لو كان والدي من المكسيك لساعدني ذلك في الفوز بالانتخابات»، وهو كلام استفز الكثير من ذوي الأصول الأميركية اللاتينية الذين يرون أن النظام الانتخابي ما يزال يميز ضدهم ويمنع صعود مرشح منهم للرئاسة، على الأقل حتى الآن.

أوباما قد يكون أغضب وأحبط الكثيرين الذين حلموا بالكثير بعد فوزه الذي أطلق آمالا كبرى حول العالم وداخل أميركا، لكنه على الرغم من كل ذلك يبدو خيارا أفضل من رومني في انتخابات أميركية تجري في وقت صعب على العالم كله لا يحتاج إلى رئيس يتوعدنا بعصا غليظة «جدا جدا جدا».

[email protected]