معجزة السيرابيوم

TT

أعلن منذ أيام قليلة عن إعادة افتتاح السيرابيوم مرة أخرى للزيارة بعد انتهاء أعمال الترميم به، وللأسف لم تسلط الأخبار الضوء على ما تم من أعمال، أو حتى تُعرف القراء ما هو السيرابيوم؟ وما هي أهميته؟ ولذلك وجدتني مهتما بالتعريف بالسيرابيوم. فإلى الشمال الغربي وعلى مقربة من هرم الملك زوسر المدرج بسقارة يوجد السيرابيوم، وهو عبارة عن أنفاق عملاقة محفورة بباطن الصخر يتفرع منها حجرات دفن عميقة خصصت كل حجرة لتابوت ضخم من البازلت الأسود المصقول وذلك لدفن العجل أبيس الذي ارتبط بديانة بتاح رب مدينة منف حيا، وديانة أوزير سيد العالم الآخر ميتا؛ ففي معبد بتاح كان الكهنة يجوبون البلاد بحثا عن عجل بمواصفات خاصة يتم رعايته بمعبد بتاح في مدينة منف القديمة أو ميت رهينة حاليا. وعندما يموت أبيس يتم تحنيطه وتجهيزه لرحلته الأبدية، ويتم دفنه داخل تابوت بجوار أقرانه ويقوم بالخدمة الجنائزية كهنة يتوارثون الاهتمام بالسيرابيوم وبقائه؛ الأمر الذي جعل السيرابيوم يستمر ويتوسع على مدى آلاف السنين منذ عصر الملك أمنحتب الثالث من الأسرة الثامنة عشرة وحتى العصر الروماني، ويجب أن نؤكد أن أبيس لم يكن يعبد بين المصريين القدماء، وإنما كان رمزا للقوة والإخصاب والاستمرارية.

ويرجع الكشف عن السيرابيوم إلى عام 1850 عندما فشل أوغست مارييت في المهمة التي أرسله اللوفر لها وهي شراء عدد من كنز المخطوطات الدينية والأدبية المكتشفة في ذلك الوقت بأحد أديرة الفيوم، فما كان من مارييت إلا أن استغل المال الذي بحوزته في إجراء حفائر في سقارة، وكان الكشف عن السيرابيوم، والعثور على هذا الكنز الأثري المهم، واستطاع مارييت إرسال عدد كبير من التمائم والحلي واللوحات المنقوشة والملونة والمعروفة باسم لوحات السيرابيوم إلى اللوفر لإقناعهم بضرورة البقاء في مصر واستكمال حفائره. وقد تعرضت مدافن العجل أبيس إلى مآس كثيرة منها قيام البعض باستخدام الديناميت لتفجير التوابيت الضخمة والكشف عما بداخلها من كنوز أثرية!

وعلى مدار السنين وبعد الكشف عن السيرابيوم تدهورت حالته وملأت الشروخ سقفه وبدأت أجزاء منه تتساقط وتنهار، وأصبح السيرابيوم مهددا بالدمار، وزادت المشكلة لعدم قدرة من تولوا مسؤولية إدارة آثار مصر على التدخل السريع وبحث المشكلة واتخاذ القرار بالتدخل لإنقاذ السيرابيوم، وأصبح ملفا محرما ومحظورا حتى الاقتراب منه وفتحه. وعندما توليت مسؤولية إدارة الآثار في مصر كان أمامي خياران الأول عدم الاقتراب من السيرابيوم والاكتفاء بكونه مغلقا، أو البحث عن حل لإنقاذه وهو ما فعلته حفاظا على أثر فريد لا مثيل له. وكانت الخطوة الأولى تحديد مشكلات السيرابيوم الإنشائية ومشكلات التهوية والإضاءة وغيرها ثم عرضها على أهل التخصص لاختيار أفضل الحلول وبما يحافظ على الطابع الأثري للسيرابيوم، وعقدت مؤتمرا لهؤلاء المتخصصين من مصريين وأجانب وعلماء آثار وذلك بسقارة وعرضت خطة الدكتور حسن فهمي أستاذ الهندسة وميكانيكا التربة والخاصة بتدعيم الأنفاق من الداخل وكان البعض قد اعترض عليها، وطلبت من جميع الحاضرين أن يعطوني حلولا بديلة، وبعد بحث ونقاش اتفق الجميع على خطة الدكتور حسن فهمي. وعلى الفور بدأت سيمفونية عمل رائعة بقيادة المهندس إبراهيم محلب، الرئيس السابق للمقاولين العرب، وبعد تسع سنوات من العمل المخلص استطاع العاملون من مهندسين وأثريين ومرممين وعمال أن ينقذوا جزءا غاليا من تراثهم لينالوا احترام جميع المهتمين بالتراث الإنساني.. إلى كل من عمل بالسيرابيوم ولم يلحق بافتتاحه.. لا تحزن فالتاريخ لا ينسى المؤثرين بالعمل حتى في زمن غاب فيه الوفاء.